ورطة الناتو الأوكرانية

حتى لو حدث ما لا يبدو قريبا، ووافق مجلس النواب الأمريكي على دفعة الستين مليار دولار الإضافية لدعم أوكرانيا، فلا يبدو أن مهمة الناتو في أوكرانيا قابلة للنجاح، لا في تفكيك روسيا، كما كانوا يقولون أول الحرب التي دخلت عامها الثالث، ولا حتى في ردع انتصار الروس الذي تراكمت ملامحه، فقد انتقل الروس في الشهور الأخيرة من التقدم العسكري إلى ما يشبه الحسم العسكري، وتوالت انتصاراتهم التكتيكية المتلاحقة في منطقة الدونباس بالذات، وفي مقاطعة دونيتسك على نحو أخص، وصار الخبر الذي يأتي كل يوم تقريبا، أن تسقط قرية أو بلدة جديدة في يد القوات الروسية، وبطريقة القضم التدريجي النشيط غرب باخموت وغرب أفدييفكا، التي كانت معركتها شبيهة بمعركة باخموت، وقبلها سوليدار، وقد كانت مفارم لحوم بشرية، لعب دور البطولة الصاخبة فيها يفجيني بريغوسين قائد فاغنر الراحل عن الدنيا، محترقا بطائرة الرحلة الغامضة في أواخر أغسطس 2023.

جازفت دول الناتو بكل ما تملكه من سلاح متطور، ومن تحالف الدبابات إلى تحالف الصواريخ والطائرات، وبدا أن روسيا استعدت لحرب قد تطول أعواما، بينما زحفت عوارض الإنهاك في عواصم الغرب

وكانت الحرب من بدايتها عالمية الطابع، تواجه فيها روسيا تحالفا مكونا من 54 دولة معادية، حتى لو لم تعلن الأطراف المعنية حربا مباشرة، واختبأت وراء قناع دعم أوكرانيا، وتمكينها من ردع الزحف الروسي المعلن في 24 فبراير 2022، وتطور الدعم المعلن من صواريخ جافلين وستينجر وراجمات هيمارس حتى صواريخ ستورم شادو وسكالب وأتاكمز البعيدة المدى، وطائرات أف ـ 16 المنتظرة قريبا، ولم يقدّر الروس للخطوة موضعها عند أول تحرك، وبدت القوات الروسية على حال من الاستهتار وضعف التنظيم والإمدادات اللوجستية، عندما زحفت إلى العاصمة كييف، وكاد امبراطور الكرملين أن يغلق الملف، بعد بوادر تراجع أوكراني في مفاوضات إسطنبول المبكرة، وكاد خطأ الحساب العسكري والسياسي الروسي، أن يغرى واشنطن وجماعتها في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، وأن يبشرها بأن هزيمة روسيا صارت ممكنة وأقرب من طرف الإصبع، وبالذات بعد انسحاب قوات موسكو من حول كييف، ثم انسحابات القوات الروسية اللاحقة من مقاطعة خاركيف أواخر عام 2022، التي لحقها انسحاب روسي طوعي من بعض مقاطعة خيرسون غرب نهر دنيبرو.
وبدا المشهد مع نهايات 2022، وكأن الروس وقعوا في فخ الفصام بين المعلن والواقع، إذ كانت موسكو قد أعلنت رسميا عن ضم المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوغانسيك وزاباروجيا وخيرسون) ـ إضافة لشبه جزيرة القرم السابق إلحاقها ـ إلى أراضيها أواخر سبتمبر 2022، بينما كان الوضع على الأرض مختلفا جدا، وبالذات في مقاطعة دونيتسك، التي ظلت غالبية مدنها وقراها بيد الأوكران، ومن دون إحداث اختراق جدي، اللهم إلا في مدينة باخموت التي تكلفت السيطرة عليها دماء كثيرة، دفع أغلبها مقاتلو جماعة فاغنر غير الرسمية، ومن قلب المأزق العسكري، ولدت الاستدارة الروسية، حافظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عنوان العملية المقيدة ظاهريا، وظل ينعتها باسم العملية العسكرية الخاصة، لكنه تصرف عمليا مع ما يجري بروح مختلفة، وبدا كأنه يعلن حربا دون تصريح، وتجنب قرار التعبئة العامة، لكنه ضاعف عدد القوات العاملة بأوكرانيا عبر طرق أخرى، أهمها فتح باب التعاقد مع وزارة الدفاع على مصراعيه، وزاد عديد القوات الروسية المعنية على مثيلتها الأوكرانية، مع نجاح القيادة الروسية في تجاوز مصاعب عقوبات اقتصاد غربية، ظلت تتوالى حتى بلغت نحو 18 ألف عقوبة، تصورت واشنطن وتوابعها، أنها ستخنق الاقتصاد الروسي، وأنها ستصيب الآلة العسكرية الروسية بالشلل، وهو ما حدث عكسه بالضبط، فقد استوعب الاقتصاد الروسي تراجعا محدودا في البداية، لكنه تحول إلى نمو ظاهر في عام 2023، وإلى قفزات كبرى في إنتاج السلاح والذخائر، زادت أضعافا على مجمل الإنتاج الغربي، ما خلق معادلة جديدة في الصدام العالمي تحت النووي في الميدان الأوكراني، فقد جازفت دول الناتو بكل ما تملكه من سلاح متطور، ومن تحالف الدبابات إلى تحالف الصواريخ والطائرات، وبدا أن روسيا استعدت لحرب قد تطول أعواما، بينما زحفت عوارض الإنهاك في عواصم الغرب، مع الإخفاق التام للهجوم الغربي المضاد، الذي بدأ في أوائل صيف 2023، ونجح الروس في صده، ثم في محوه تماما، بل تحولوا إلى هجوم عكسي في أواخر 2023، استمر مع الشهور الأولى لعام 2024، وسيطر الروس على مدينة ماريينكا، ثم على مدينة أفدييفكا الأهم، ثم على عدد متزايد من البلدات في غرب وجنوب مقاطعة دونيتسك، ومن دون نجاح للطرف الآخر في استنساخ خطوط الدفاع الروسية الشهيرة باسم خطوط سوروفيكين، نسبة إلى الجنرال الشهير سيرجي سوروفيكين، فخطوط الدفاع الأوكرانية يجرى تفكيكها والالتفاف عليها، ومواصلة القتال في دوائر تفتيت متداخلة، والقوات الأوكرانية تسارع بالانسحاب إيثارا للسلامة، والقيادة الأوكرانية تتخبط في هزائمها المتسارعة، وتزيح القائد العام الشهير لقواتها الجنرال فاليري زالوجني، وتحل الجنرال ألكسندر سرسكي، الذي كان يفضل الموت على الانسحاب وقت معركة باخموت، فأصبح جنرالا مدمنا على قرارات الانسحاب، مع تعليق جرس الاتهام في رقاب مرؤوسيه من قادة الفرق والألوية والكتائب.
وكما القاعدة التاريخية العامة، فإن النصر له ألف أب، بينما الهزيمة مسكينة يتيمة، فقد سارعت كل الأطراف المتحالفة ضد روسيا بتقاذف الاتهامات، قادة الناتو يحذرون من دوران عجلة الأيام الصعبة، ويلقي أغلبهم اللوم على قادة الجيش الأوكراني، وعلى تفشي الفساد فيه وفي القادة السياسيين، وقد أضاعوا قيمة أحدث الأسلحة الغربية، وركام دعم أوكرانيا بمئات المليارات من الدولارات واليوروهات، بينما الرئيس الأوكراني زيلينسكي يطلق صرخته الأخيرة، ويعلن أن انتصار روسيا خزي وعار على الغرب كله، ويطلب المزيد من أسلحة الدفاع الجوي والصواريخ بعيدة المدى، ومن دون أن يذكر، أن كل ما طلبه ذهب إليه، وتساقط ودمر تباعا على يد الأسلحة الروسية وذخائرها وصواريخها، التي لا تنفد، وأجيالها الجديدة الانتحارية من الطائرات المسيرة، خاصة الطائرة المسيرة المعروفة باسم لانست، إضافة لطائرات الهيلكوبتر من طرازات كاموف، وتزايد أدوار القاذفات الروسية المتقدمة في الميدان، وبما جعل الدبابات الغربية المتقدمة تشالينجر البريطانية وليوبارد الألمانية وأبرامز الأمريكية، تنفجر في الميدان كحديد خردة، وتسقط أساطير مزاياها الفائقة بالجملة، ما دفع عواصم الغرب إلى كشف أوراقها المخفية، على نحو ما ذهب إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ودعوته لإرسال قوات غربية رسمية لقتال الروس في أوكرانيا، وهو ما سارعت إلى نفيه وزارة الخارجية الفرنسية، وقالت إن ماكرون كان يقصد إرسال قوات خاصة، وكأنها تعترف بوجود قوات فرنسية بالفعل على الأراضي الأوكرانية، إضافة لعشرات آلاف المتعاقدين المنضمين للفيالق الأجنبية، ثم جاءت العاصفة مع التسريبات الألمانية، التي نشرتها مارغريتا سيمونيان رئيسة تحرير شبكة آر. تى الروسية، ومدتها 38 دقيقة، حوت تسجيلا صوتيا حرفيا لقائد سلاح الجو الألماني، وعدد من كبار الضباط، ودارت حول إرسال صواريخ توروس الألمانية إلى أوكرانيا، وبيان نقص مقدرة الضباط الأوكران على تشغيلها، وضرورة إرسال ضباط ألمان لإطلاقها من الأراضي الأوكرانية، وتكرار ما فعله البريطانيون والفرنسيون مع إرسالهم صواريخ ستورم شادو وسكالب، وهو ما وضع المستشار الألماني في حرج بالغ، فهو يعلن رسميا امتناعه عن توريد صواريخ توروس، بينما هو يعترف بعد وزير دفاعه بصحة التسجيل الروسي، ويعد بالتحقيق فيه، وزاد الطين بلة، مع اعتراف ضابط ألماني في التسجيل المذاع، بأن صواريخ توروس غير جاهزة للتشغيل أصلا، وهو ما أطلق موجة من الذعر في الدوائر الغربية العسكرية، التي ترتعب من نجاح روسيا في إعادة بناء شبكات تجسس متقدمة في معاقل وزارات الدفاع الأوروبية والأمريكية، وإلى حد حذر معه جون كيربي ـ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي ـ من دور روسيا في زرع بذور الشقاق بين حلفاء الناتو، وما قد يبدو مؤكدا أن روسيا ومخابراتها لديها تسجيلات أخرى أخطر، قد تذيع بعضها في الأيام المقبلة، وتقدم أدلة واعترافات مباشرة على حجم التورط الغربي في حرب أوكرانيا، فقوات وخبراء الناتو موجودون من أول يوم في الحرب، ويديرون العمليات في الميدان، إضافة لدور ستارلينك وخدمات المئات من الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية الغربية، وانفضاح ذلك كله وغيره بوثائق وتسجيلات مسربة، يزيد من ورطة الناتو وتابعيه، ويجعل الهزيمة من نصيب الرئيس الأمريكي لا الرئيس الأوكراني وحده، ويعجل بانزياح الهيمنة الأمريكية المنفردة على مصائر العالم، مع انكشاف ضعف مقدرتها حتى على التحكم في سلوك الحلفاء والتابعين.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية