وداعا أبا وطن

حجم الخط
0

من أهم الأصوات الشعرية التي ظهرت في فلسطين يأتي صوت المرحوم سميح القاسم الذي وافته المنية من أيام.
لسميح القاسم دور متميز في الانتقال بحساسية الشعر العربي من المحلية إلى العالمية و من طور الاعتماد على الذات و المكونات أو الينابيع لطور تكوين الينابيع.
لقد اتسمت فترة سميح القاسم بالغليان و مساءلة الذات و البحث عن معنى ما نسميه «مشروعا شعريا». 
و فرض ذلك مواجهة عدة تحديات جسيمة. أولها يمثلهالجيل السابق أو جيل النكبة، و من رموزه إبراهيم طوقان الذي له وظيفة واحدة و هي استنهاض الهمم و التحفيز و ذلك بأسلوب إيقاعي لا تنقصه أخلاق الفرسان و المغامرين.
كان اتجاه التصعيد عند طوقان و أبناء جيله انتحاريا. و تحركه رضة الفطام أو الخوف من الابتعاد عن « أمه الأرض»، مهد الطفولة و الحضن الدافئ. و أضيف أيضا الابتعاد عن صورة الأم الطيبة التي يشكل تفكيكها في الخيال أو ذهن المكونات نوعا من النوستالجيا و الألم و المكابدة.
وأنا لا أرى فارقا ملحوظا بين هذه الروح الانتحارية نتيجة ضياع الأرض ( كناية عن الوطن) و بين الكبت المرضي الذي يتفاقم عند شعراء لديهم عقدة تثبيت من أمثال جون أشبري. فكل قصائده نحيب و بكاء صامت على الخميلة التي التهمتها أوبئة مجتمع صناعي ربوي.
و كانت مهمة سميح القاسم تتلخص بتجاوز هذه المحنة و بإعادة اكتشاف الطبيعة الإشكالية لوجود يتبدل شئنا أم أبينا. 
لقد حاول سميح القاسم أن يتعامل مع تبديل الموضوع بتبسيطه، و بتبديل موقع الذات من هذا الموضوع.
و قد فرض عليه ذلك إعادة تعريف معنى السقوط في الفجوة و تفكيك عناصر الموجودات ثم صياغتها: كل على حدة. بحيث كل عنصر يكون موضوعا لذاته.
و لمزيد من التوضيح: لقد حاول أن يضفي شيئا من الوعي على استقلالية الأجزاء. و عليه نظر للعالم كوحدات مغلقة و مترادفة. و قاده ذلك لدمج عدة أساليب شعرية في إطار قصيدة لها مضمون عضوي، كما فعل في (كولاج ) و في (جهات الروح).
و عن ذلك يقول الشاعر اليمني عبدالله العذري في مقدمته لكولاج: إن بعض النماذج الجديدة تستعمل جمع عدة مواد مختلفة الصفات و الأغراض في العمل الواحد. و يضيف: إن أحد الشعراء العرب الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري لجأ لهذه الطريقة في الشعر و النثر. و قد صنفه النقاد القدماء في باب « الحماقات». ص١٠. 
و من نافلة القول إن هذا الأسلوب ( استثناء المركز من الطغيان على الأطراف من خلال التنويع في البنية ) انتشر منذ وضعت الحرب الثانية أوزارها، و لا سيما في الفن التشكيلي و العمارة الحديثة. لقد تحولت وحدة الكل لترادف الأجزاء. بمعنى أن اللوحة الواحدة بدأت تستعمل عدة مصادر ( ميديا مختلفة). ففي لوحات الفنانة الهولندية غيتا باردويل مثلا أو لوحات الصربية ناتاشا سكوريك تتآزر طوابع البريد و الجص و الخشب و ورق الصحف و المعادن في صناعة الصورة النهائية للوحة.
لقد جدد المرحوم سميح القاسم بنية القصيدة العربية. فقد فكك مفهومنا الكلاسيكي للحداثة و أعاد صياغته ضمن رؤية متعددة المراكز، ليس فيها غالب و لا مغلوب. و لا ترفض القديم بأساليب حداثة مكفهرة و مشاكسة. بالعكس لقد أعاد للقصيدة العمودية تألقها من خلال عمليات التحويل و الإنضاج و التطوير.
لا شك أن محمود درويش لعب دورا هاما و رياديا في تفتيح براعم الشعر العربي. و لا سيما بعد حصار بيروت. فقد تحول من كتابة القصائد لكتابة القول الشعري. و اعتمد لتحقيق ذلك على تبديل العلاقة بين الصفة و الموصوف و الإسم و المسمى. و أجاز للألوان أن تتجاور ضمن علاقات تشكيلية يحركها منطق نفسي.
و قل نفس الشيء عن توفيق زياد الذي وافته المنية في أعقاب معاهدة أوسلو مباشرة. فقد تخصص بالاضطرابات الصوتية و الألسنية. و تحول الشعر معه لنوع من الأفازيا، لقد كانت توجد في إيقاعاته فراغات و هي متكررة بحيث أن غياب الصوت و إيقاعه يكون له معنى، مثل الصفر في الرياضيات. إنه مع بقية الأعداد له قيمة و معنى و لكن بمفرده لا يدل على شيء.
غير أن ميزة سميح القاسم ( الشهير بلقب أبو وطن) هي في تأصيل الحديث و القديم. و في صياغة قصيدة ذات تاريخ نفسي و دلالي . وفي إنتاج قصيدة جوهرية مصدرها التصورات و المشاعر و ليس التراكيب و الصور والمرئيات.
و كما أرى إن أعماله و لا سيما التي ظهرت في الثمانينات و ما بعد لها دور ريادي لا يقل بالأهمية عن منجز السياب في قصائده الحركية التي نقول إنها قصائد تموزية.
…..

صالح الرزوق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية