‘هي’ للأمريكي سبايك جونز: الحب بين الثابت والمتحول

حجم الخط
0

ممارسة الحب في المجتمعات الصناعية بالمستقبل القريب، تأخذ منعطفا آخر حسب رؤية المخرج سبايك جونز، مضيفا تحفة فنية الى أرشيف سينما المؤلف. يقصُّ سبايك أشرطة الزمن ليأخذنا إلى المستقبل القريب، حسب حقائق علمية ودوافع نفسية ثابتة، إعتمد المخرج على قدرات الممثل العبقري يواكيم فينيكس.
افتتاحية الفيلم بلقطة قريبة لوجه يواكيم لم تكن مغامرة بل بمثابة تباهي المخرج ببطله، الذي يقوم بدور ثيودور تامبلي، كاتب رسائل بخط اليد عن طريق الكومبيوتر، وهي مهنة يتنبأ المخرج أنها تلاقي رواجاً في المستقبل. يعاني من الوحدة والرتابة والصراع النفسي بسبب الطلاق، يشتري برنامجاً متطوراً عبارة عن ذكاء صناعي بصوت بشري، وهو نظام فردي لكل مستهلك يرتب الرسائل الإلكترونية ويفهم أحاسيس الإنسان ويتفاعل مع مشاعره، عن طريق ترددات الموجات الصوتية. يختار صوتاً أنثوياً ليتعرف على سمانثا، صوت مفعم بالأحاسيس والانطباعات، تلعب هذا الدور المركب سكارليت جوهانسون.
تتطور العلاقة بينهما الى أكثر من برنامج مساعد على الحياة لتصبح هي الحياة بالنسبة له، وجد بها المستمع الجيد والإحساس الفيّاض وروح الدعابة، والأهم من ذلك حب دون التزام، فهو ما كان يبحث عنه. هشاشة الإنسان في العصر الصناعي الحديث وانطواؤه جعلاه غير قادر على العطاء، والالتزام بانسان آخر هرباً من مواجهة المشاعر الحقيقية وتقلباتها.
استطاعت جوهانسون أداء الدور بحرفية رائعة، حيث تجد المساحات والعوالم متجسدةً بصوتها، وتعبيراته متماهيةً مع تطور العلاقة من الصفر حتى القمة، وثم السقوط من أعلى سلم العلاقة العاطفية التي نشأت بينهما.
قام المخرج بتصوير مشاهد من الفيلم مع صوت الممثلة سامانتا موتورن، فوجد أن الصوت لا يجسد المشاعر المطلوبة، ليعيد التسجيل من جديد مع جوهانوسن.
ليس ثيودور هو الوحيد الذي لجأ إلى الحب الالكتروني، بل الغالبية العظمى هربت من مسؤولياتها. ومن الواقع نحو خيال الحب الحديث. يبقى ثيودور على تواصل مع صديقته ايمي آدمز، وهي مبرمجة ألعاب الكترونية تقوم بتجربة فيلم وثائقي ليكون موضوعها هو النوم، فنحن نستغرق ثلث عمرنا في النوم، وهو ما وجدته جميلا لأنه ملجأ وبوابة للأحلام. نلحظ أن الكل يعاني من مشاكل وصراعات داخلية مشابهة لمعاناة ثيودور، لكن باختلافات جزئية مرتبطة بشخصياتهم، وظروفهم بينما المشترك هو الوحدة والهشاشة.
يجسد المخرج أجواء الوحدة جيداً عن طريق الإضاءة الصفراء البرونزية، والإيقاع الإخراجي البطيء والهادىء، واللقطات الثابتة، مصوراً مدى رتابة حياة ثيودور. كما أظهر المدينة بتصميمها العمراني، والأبراج العالية جدا موحشة كما لو أن لا أحد على قيد الحياة في هذه المدينة، وطوّق سماءها بالضباب وهو مبني على حقيقة علمية، فالمدن التي تكثر بها ناطحات السحاب يكثر بها الضباب.
تخيل عوالم نيويورك لم يكن اعتباطيا بل علميا، عاد المخرج سبايك للتعاون مع المصمم الفني المخضرم ك.ك. باريت، الذي سبق وان تعاونا معا في جميع أفلام سبايك الروائية الطويلة، بالإضافة لمجموعة من الأفلام الضخمة التي صمم أجواءها حيث حققت نجاحات بفضله.
تعاون أيضا مع كيسي ستورم، مصمم الملابس الذي شاركهُ في كل أفلامه الروائية ليقوم بتصمم ملابس مريحة ذات ألوان زاهية، وبناطيل ذات خصر مرتفع، من القطن والحرير الطبيعي. وبالإضافة الى الموسيقى الأخاذة التي توازي التكوين الصوري، أوكلت مهمة التأليف الموسيقي للملحن اركادا فاير.
وبعد جونز نفسه يعود الفضل في سينما الصورة إلى مدير الإضاءة والتصوير السويسري هيوت فان هيوتيما. أما العاملون في المؤثرات البصرية فيصعب حصرهم، لأن عددهم يتجاوز 120 مهندسا.
تم التصوير في أربعة أماكن ضمن الولايات المتحدة وفي الصين (شنغهاي)، وحصل الفيلم على أوسكار أفضل سيناريو، وترشح لأربع أوسكارات، ونال اثنين وأربعين جائزة من مهرجانات سينمائية مختلفة.
مخرج سينمائي سوري

مالك نجار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية