هندسة (الاعتياد) الإسرائيلية… والبحث عن كفن للإنسانية في غزة

بعد مضي أسبوعين من شهر رمضان، ما زالت العمليات العسكرية الإسرائيلية متواصلة في قطاع غزة، وعدّاد الموت ما زال يمضي بمعدلات مقلقة، على الرغم من تراجع وتيرة تصاعد أرقامه، بسبب تآكل بنك الأهداف، حيث لم يعد في غزة الكثير من المنشآت، أو التجمعات السكنية، التي يمكن قصفها، والمدنيون مكدسون في أراض مكشوفة ينتظرون الطرف الذي سيفرض كلمته في مجلس الحرب الإسرائيلي، خاصة أن الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس جو بايدن، يبدو مجرد تصريح إعلامي لا أكثر.

ما يحدث في غزة هو تراجع قيمة الإنسان الفرد والمجتمع بشكل جوهري في الذهنية العالمية، والتواطؤ الإعلامي الذي يحدث من أجل تطبيع هذه الحالة من استساغة الموت العشوائي

تحدث كثيرون عن عدم رغبتهم في الاعتياد مع ما يجري في غزة، ومع ذلك فالحرب الطويلة جعلت مظاهر الحياة الطبيعية تعود في كثير من البلدان العربية، وهذه ظاهرة إنسانية معروفة، فالذي يحدث هو التزاحم المرعب لصور القهر الإنساني الذي يتعرض له سكان القطاع، بحيث أصبحت أي صورة منفردة أو حكاية خاصة تخرج من ركام القطاع، محصورة في إثارة الضيق والحزن المؤقت بعد أن كانت مصدراً للحنق والغضب قبل أسابيع.
تستشعر إسرائيل أن أمامها الوقت كله، وتستطيع الوقوف طويلاً على الحافة، لأن لا أحد يدفعها للسقوط، وتتجول في غزة أسئلة مكبوتة حول جيل كامل يتعرض لعطب إنساني عميق، من المتعذر أن يتم إصلاحه وتجاوزه، وتعتبر مسألة إعلان المجاعة مجرد عملية فنية تتعلق بالتعريف، ولا تلتفت إلى واقع الجوع الذي يتفشى في القطاع، وتبقى الحالة الصحية ووضعية مئات آلاف الأطفال وأمهاتهم تغذي تقارير وصفيةً تهم بعض الجمعيات الفاعلة في مجالات التنمية، لدرجة أن بعض الجمعيات تتحدث عن الأثر البيئي للحرب في غزة. المحصلة، أن الاعتياد مع ما يجري في غزة أصبح أمراً واقعاً، وأنه سيقود إلى تشكيل ملامح مرحلة ما بعد غزة في المنطقة العربية كلها، وسيلقي آثاره الثقيلة على ما يمكن أن يجري في مواقع أخرى من المنطقة، بل ويجري حالياً، أن أحداثاً دمويةً تنتهك فيها الإنسانية وقيمها بصورة واضحة تجري في السودان، من غير أن تستدعي الاهتمام الذي يليق بالكارثة، وربما تكون لبنان أو محطة أخرى في المنطقة العربية تشكل فرصة لانتقال الكارثة الغزية تجاهها. البعد المؤلم لما يحدث في غزة هو تراجع قيمة الإنسان الفرد والمجتمع بشكل جوهري في الذهنية العالمية، والتواطؤ الإعلامي الذي يحدث من أجل تطبيع هذه الحالة من استساغة الموت العشوائي، المترافق مع مظاهر القهر والرعب، ويمهد ذلك لمحطات أخرى، المنطقة العربية مرشحة لاستضافة بعض من فصولها، وفصول أخرى يمكن أن تندلع في أي مكان، والتبرير سيكون جاهزاً، وهو مدى ضحالة وضعف ردود الفعل العالمية على ما يحدث في غزة.
أدركت (إسرائيل) منذ البداية أن اللعبة تجري في التصورات العامة، وأنها ما زالت تستطيع من خلال قدرتها على إدارة فكرة الاعتياد أن تفلت بجرائمها كما فعلت في مرات كثيرة سابقة، ولذلك أصرت على إخضاع علني ومذل لإيلون ماسك مالك منصة إكس (تويتر سابقاً)، ودفعته لأن يحضر صاغراً ليستمع إلى توجيهات وتعليمات (إسرائيلية) ليرسم استراتيجيته في الموقع صاحب التأثير الواسع على تشكيل التوجهات السياسية في العالم. استراتيجية (إسرائيل) على التمدد بالوقت اللازم لتحقيق الهدنة، ووضع الصعوبات في طريقها، ترتبط بأن تعطي ذلك القيمة الجوهرية، وتجعله يغطي على الجريمة الأصلية التي تمثلت في جرائمها تجاه أهل قطاع غزة، بحيث تصبح المحاسبة مسألة ثانوية، فإذا كان العالم يسعى لدفع إسرائيل إلى القبول بالهدنة، فكيف يمكن أن يؤسس لمحاسبتها؟
الفلسطينيون بدورهم عليهم أن يحملوا صدمة متسلسلة ستلقي أثرها على حياتهم، وجميع تصوراتهم، وتدفعهم للتنازل عن حقوق أصيلة، لأنها ستوضع أمام مجرد سلامتهم والعيش بالحد الأدنى من الممكنات، ولا أحد يعلم المدى الزمني لهذه الحالة، هل تستمر لسنوات قليلة كما حدث في الثمانينيات بعد اجتياح لبنان؟ أم تتواصل لفترة أطول، وهل تستتبع تنازلات جوهرية لمعرفة الفلسطينيين أن قضيتهم أصبحت (اعتيادية)، وأن الرغبة الجوهرية تكمن في تجاوزها، والمشكلة أن الفلسطيني يرى أن حقوقه الأساسية في أرضه وحياته التي كانت قبل الاحتلال، أصبحت خارج الحديث، الذي يتركز أساساً حول حقوقه كإنسان مثل أي إنسان آخر، وهو ما لا يتمكن من تحقيقه، بل تتحول هذه الحقوق البسيطة والبدهية إلى غاية بعيدة المنال.
إسرائيل تعلم أنها ليست صربيا، وأن العالم لن يتحرك ليوقفها بالطريقة نفسها التي حدثت بعد الجرائم في البوسنة والهرسك، ولا يوجد ما يؤشر لذلك، فالإسرائيليون أفلتوا بجرائمهم المرة بعد الأخرى، وكثيراً ما كانت جرائمهم تختفي وراء الكف الأمريكي أو البريطاني، الذي يرتفع بالفيتو في مجلس الأمن، ولذلك لا يبدون متعجلين على وقف الكارثة الإنسانية في غزة، ولا يستشعرون أن سقوطهم من على الحافة مسألة قريبة، لأنهم يتمكنون من إدارة (الاعتياد) لمصلحتهم في كل مرة، والمشكلة أن الاعتياد سيتحول إلى وباء عالمي بعد غزة، ومحطات كثيرة في العالم، قريبة من المنطقة العربية وبعيدة عنها، ستسقط في فخاخ هندسة (الاعتياد)، ويمكن لإسرائيل أن تسوق خبراتها في ذلك، وتضيفه إلى منتجاتها المتعلقة بالقرصنة الإلكترونية ومنتجات أخرى كثيرة تسهم في خلق عالم أسوأ في كل مرة. مع بداية الحرب، كانت المساعدات الشحيحة تحمل الأكفان للفلسطينيين، ولكن ما تحتاجه غزة هو كفن كبير لمفهوم (الإنسانية) والقيم المرتبطة به.

كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية