هل يخلف صراع الأجيال صراع الطبقات؟

وصلنا الأسبوع الماضي إلى التساؤل عن أسباب تباين المواقف بين الفرنسيين وبقية الأوروبيين من مسألة السعادة المؤجلة؟ أي لماذا يقبل جميع الأوروبيين بوجوب تأخير سن التقاعد إلى سن الـ67، بل وإلى سن الـ70، بينما تثور ثائرة الفرنسيين، الذين لا تزال مظاهراتهم متواصلة منذ ثلاثة أسابيع، لمجرد قرار الحكومة تأخير سن التقاعد من الـ62 إلى الـ64؟ وهي المسألة التي اختصرتها النيويورك تايمز بسؤال جاد هازل: هل السبب أن الفرنسيين كسالى؟
تنطوي الإجابة على هذا السؤال على أهمية بالغة لأنها تتجاوز تفاصيل الشأن الفرنسي لتشمل جملة من أبرز التطورات الاجتماعية التي شهدتها المدنيّة المعاصرة. إذ المعروف أن الحقوق الاجتماعية المتعلقة بالعمل لم تكتسب إلا في القرن العشرين. فقد كانت ساعات العمل طيلة القرن التاسع عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين تتراوح بين 12 و16 ساعة، ولم يكن ثمة أيام راحة أسبوعية، ولم تكن الأجور تكفي إلا لسد الرمق، وكان وضع الطبقة العمالية البئيس الحزين يشمل تشغيل الأطفال الأبرياء، منذ سن الخامسة، في أعمال شاقة ولساعات طويلة. وقد وثق الروائيون الأفذاذ، مثل البريطاني تشارلز ديكنز والفرنسي إميل زولا، تفاصيل هذا الواقع الذي فرضته الرأسمالية الأولى في صور حية نابضة لا تزال تفعلها فعلها في القارئ المعاصر.
ولهذا فإن الحركة النقابية في أوروبا قد ركزت عملها في العقود الأولى من القرن العشرين على المطالبة بخفض ساعات العمل، حيث كانت معركتها الكبرى تتمثل، لزمن طويل، في الفوز بالحق في خفض ساعات العمل اليومي إلى ثمان فقط. حق يبدو اليوم كأنه من طبائع الأشياء، ولعل الأجيال الناشئة تتصور أنه بديهي ولا تعلم كم استنفدت معركة الفوز بهذا الحق العمالي من أعمار فنيت في النضالات والعذابات. ولم يتم إحقاق هذا الحق في فرنسا إلا عام 1919، أي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. ويرجع الفضل في ذلك إلى حكومة جورج كليمونصو. أما المعركة الثانية فقد تمثلت في النضال من أجل تحديد مدة العمل بأربعين ساعة أسبوعيا، أي نيل الحق في يومين من الراحة بعد خمسة أيام عمل. ولم يتم إحقاق هذا الحق إلا بعد وصول «الجبهة الشعبية» اليسارية إلى السلطة عام 1936.

وثق الروائيون الأفذاذ، مثل البريطاني تشارلز ديكنز والفرنسي إميل زولا، تفاصيل هذا الواقع الذي فرضته الرأسمالية الأولى في صور حية نابضة لا تزال تفعلها فعلها في القارئ المعاصر

أما نظام التقاعد، الذي يضمن للعامل والموظف حياة كريمة حتى الممات، فإن الحركة العمالية لم توله أي اهتمام في عقود النضال الأولى. لماذا؟ لأن معدل الأعمار كان آنذاك منخفضا، بين 45 و50 سنة، أي أنه لم تكن تبقى للعامل فترة معتبرة للعيش بعد انقضاء سنوات العمل. ولهذا لم تطرح قضية التقاعد إلا عند إنشاء نظام الضمان الاجتماعي عقب الحرب العالمية الثانية. وقد حدد سن التقاعد آنذاك بـ65 سنة. وهذا موقف واقعي لأن معدل الأعمار ارتفع، عام 1951، إلى 62 سنة. وكان من المنطقي أن يتم في العقود اللاحقة تأخير هذا السن أكثر. لسببين. أولا لأن معدل الأعمار ظل يتقدم حتى بلغ اليوم 82 سنة. وثانيا لأن نسبة كبار السن تزايدت: فبينما كان هنالك في الماضي أربعة شباب يدفعون الضرائب التي تمول جراية متقاعد واحد، لم يعد هنالك اليوم إلا أقل من شابين عاملين لكل متقاعد. وتنذر التحولات الديمغرافية بأن نسبة المتقاعدين ستفوق قريبا نسبة دافعي الضرائب، بما يهدد صندوق التقاعد بالإفلاس. ولكن ميتران فعل عكس ما يفرضه المنطق والتوازنات المالية. إذ إن الرغبة في كسب الشعبية قد حملته، عند وصوله إلى الحكم عام 1981، إلى خفض سن التقاعد إلى 60 سنة فقط! ومنذئذ اعتاد الفرنسيون هذا الامتياز فصار حقا طبيعيا مقدسا في عرفهم ومقوما أصيلا في أسلوب معيشتهم. ويجمع الخبراء أن نظام التقاعد الفرنسي هو الأكثر سخاء من حيث ارتفاع قيمة الجراية (تتراوح بين 60 و80 بالمائة من آخر راتب للعامل أو الموظف) ومن حيث التبكير بسن التقاعد (بين الـ55 والـ60). ولهذا سادت في فرنسا أسطورة الحق في التقاعد الباكر والسخي باعتباره تتويجا سعيدا لعمر من الجد والكد. ولأن ما كان ممكنا حتى أواخر السبعينيات لم يعد ممكنا اليوم، فإن الإنكار الشعبي لوقائع التحولات الديموغرافية ينذر بأن الصراع الاجتماعي في المستقبل القريب لن يكون بين الطبقات وإنما بين الأجيال. صراع بين (تزايد) المتقاعدين المحظوظين و(تناقص) الشباب العاملين من دافعي الضرائب.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية