هل حقا اقترب موت أوروبا؟

هو نفسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومن على منبر جامعة السوربون الفرنسية العريقة نفسه، يطرح الرجل تقريبا الخطاب نفسه، الذي ردده على مسامع أوربا قبل سبع سنين. آنذاك دافع عن فكرة السيادة الأوروبية، وأكد عليها هذه المرة أيضا. كما حذّر من احتمال فناء أوروبا أمام ما تتعرض له ديمقراطيتها الليبرالية من معارضة وانتقادات. وشدّد على ضرورة بناء قوة أوروبية تضمن أمنها، من خلال تعزيز دفاع مشترك يردع التهديدات الروسية، فهل حقا اقترب موت أوروبا كما يقول الرئيس الفرنسي؟
يقينا هو قلق متجدد يعيد الرئيس الفرنسي التأكيد عليه، حيث التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، التي باتت تهدد وحدة القارة، والتي يعتقد أنها بدأت تُضعفها وستقلل من مكانتها خلال العقود المقبلة. ولا شك في أن هناك مصدرين للخطر يدفعان إلى هذا القلق. الأول على المستوى العسكري، إذ إن هناك حربا تدور على الأراضي الأوروبية، وحتى الآن تبدو أوروبا ليست على المستوى الكافي لدعم أوكرانيا، إذ إنها عاجزة عن إمدادها بالذخيرة الكافية، فالأوروبيون ومنهم الفرنسيون لم يعد لديهم ما يكفي من الذخيرة، وبات العجز واضحا جدا في هذا الإطار، والسبب في ذلك أن أوروبا ولعقود طويلة كانت تعتمد أساسا على الحلف الأطلسي والولايات المتحدة في الدفاع عن مصالحها عسكريا، لذلك فالرئيس الفرنسي يقول «كيف ومتى يمكن أن نبني سيادتنا واستقلال قرارنا، إذا لم نعمل على تطوير صناعة دفاعية أوروبية؟».
أما المصدر الثاني للخطر، كما يراه ماكرون، فيتعلق بالتجارة الدولية، وهنا يقول «ينبغي أن ننجح في بناء أولوية أوروبية وبرامج صناعية مشتركة، وتقديم دعم أكبر لبنك الاستثمار الأوروبي وأن نقوم بتمويلات إضافية». والحقيقة أن الأوروبيين يرون أن كلاً من الصين والولايات المتحدة لا تلتزمان بقواعد التجارة الدولية، وأن هناك سياسات حمائية ودعما من قبل الدولة للشركات والمؤسسات الأمريكية والصينية، كي تخوض معركة التجارة الدولية. بينما في أوروبا ما زال التعامل التجاري يدور في إطار مثالي، ويتم التعامل فيه ضمن المنطق الليبرالي الكلاسيكي. إذن مما لا شك فيه أن هذه المخاطر هي على مستويين أساسيين، سواء على مستوى القدرة في الدفاع عن النفس، أو القدرة الاقتصادية على الوجود في الساحة الدولية تجاريا، وهذه لها آثار قد تهدد أوروبا بالموت بالفعل.

قلق متجدد يعيد الرئيس الفرنسي التأكيد عليه، حيث التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، التي باتت تهدد وحدة القارة، ويعتقد أنها بدأت تُضعفها وستقلل من مكانتها خلال العقود المقبلة

في ضوء هذه الأخطار التي يراها ماكرون أخطارا وجودية، فقد أعلن عن استعداده لإطلاق نقاش حول الدفاع الأوروبي يشمل السلاح النووي، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو لمواجهة مَن يُعلن ماكرون عن هذا الموضوع؟ الحقيقة أن موقف فرنسا هذا يعود الى الشعور بانكشاف الردع والدفاعات الأوروبية منذ بداية الحرب في أوكرانيا. فما جرى كشف الوهم للدفاعات والصناعات العسكرية الأوروبية بشكل إجمالي، ووجدت أوروبا نفسها ضعيفة أمام الأسلحة الروسية. لذلك كان لا بد أن تستند إلى الولايات المتحدة، والأرقام والإحصاءات العسكرية تعطي الكثير من الدلائل التي تؤكد هذه المقاربة، لأن 70% من الأسلحة الأوروبية التي تُقدّم للجيش الأوكراني مصادرها صناعات عسكرية أمريكية. ويبدو أن هذا الموقف الفرنسي حاز على رضى الجانب الألماني، حيث كتب المستشار الألماني شولتس على منصة أكس مخاطبا ماكرون «خطابك يحوي محفزات جيدة تتعلق بالكيفية التي يمكن لنا بها أن ننجح في هذا». وأضاف «معا ندفع الاتحاد الأوروبي إلى الأمام سياسيا واقتصاديا». كما تزامن هذا الموقف مع تصريحات رئيس الوزراء البريطاني حول أهمية تطوير الدفاعات الأوروبية بإحكام الجغرافيا الجيوسياسية، لأنها مرتبطة بتهديدات عالية مرتبطة بالصين وروسيا من جهة، وأيضا بالتهديدات الإيرانية، حسب رؤية ريشي سوناك.
ويبدو أن زيادة الإنفاق الدفاعي بما في ذلك ما طرحه الرئيس ماكرون حول الدرع النووي، إنما يأتي بعد أفكار طُرحت حول تشكيل جيش أوروبي موحد من الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما يشكل استجابة للأخطار التي تواجهها أوروبا، وكذلك التقديرات التي تقول، إن الولايات المتحدة صحيح أنها تدعم أوروبا حتى اللحظة، لكن أوروبا لا يمكنها الاعتماد بشكل كامل على السلاح والدعم الأمريكي، بما في ذلك الدعم الذي يُقدّم اليوم تحت غطاء وعنوان تحالف الناتو. كما يمكن القول إن سياق هذا الإعلان الفرنسي يشير إلى أن حسابات الأوروبيين اليوم تحسب حسابا لنتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة، في ما إذا فاز دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة، حيث نتذكر العناوين التي يطرحها الرئيس السابق دونالد ترامب بخصوص، أن الدفاع عن أوروبا لن يكون من دون مقابل وهذا ما لا يريده الأوروبيون.
إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، جعل فرنسا الدولة الوحيدة بين الدول الأعضاء في الاتحاد التي لديها ردع نووي. وقد أراد ديغول هذا السلاح من أجل أن يكون له موقع مميز خلال الحرب الباردة، وأن يكون دفاع فرنسا بيدها. واليوم يقول ماكرون صراحة إن الردع النووي هو في الواقع في صلب استراتيجية الدفاع الفرنسية، لكن المشكلة في الموقف الألماني. فألمانيا تريد أن تتقاسم معها فرنسا مقعدها في مجلس الأمن، وبالردع النووي كذلك، لكن لا تريد أن تعطي في المقابل التزاما أوروبيا وهذا ما ترفضه باريس، وتقول علنا إن ردعها النووي هو للدفاع عن مصالحها الحيوية، لكن بالطبع إذا تعرضت أية عاصمة أوروبية للتهديد الحقيقي، فإن باريس ستُهدد أيضا. لذلك فإن الردع الأوروبي واضح وباريس تربط أي وضع للردع النووي الفرنسي تحت تصرف أوروبيين آخرين، بتوافق على مواضيع الدفاع الصاروخي، وتطوير الترسانة الأوروبية في هذا الاتجاه.
يبدو أن أوروبا فوجئت كغيرها من الدول بانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، فذهبت باتجاه تطوير التكنولوجيا والمشاريع التنموية والاستثمارات الضخمة في الشرق الأوسط وشمال ووسط افريقيا، وتركت الصناعات العسكرية الدفاعية. والسبب في ذلك هو حالة الشعور بالأمن التي اعترتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، واعتقادها بأن روسيا لن تشكل تهديدا بمستوى ما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة، لكنها فوجئت أن هنالك خطرا جيوسياسيا يهدد أمنها القومي وأمنها الإقليمي في ضوء الحرب في أوكرانيا. وأن تهديد القيادة الروسية والجيش الروسي قد أُعيد إنعاشه مجددا، وبذلك تبين لأوروبا أن روسيا ما زالت قوة عظمى قادرة على تهديد أوروبا أيديولوجيا وعسكريا، ولا بد من الاستعداد لمواجهة مستقبلية توازن بين متطلبات الأمن البشري والاقتصادي للشعوب الأوروبية.
كل هذه الظروف ومع التغير في الحروب العالمية ومناطق الصراع التي تظهر وأوروبا شريكة فيها، وتحديدا فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فإن هذه الدول تتطلع لاستمرار أدوارها لأنه هو الذي يوفر لها إمكانيات التنمية الاقتصادية. لذلك هي تدرك اليوم ضرورة تطوير أسلحتها الدفاعية والردعية. صحيح ستبقى العلاقات التحالفية الى حد بعيد جدا مع الولايات المتحدة، لكن هذا ليس مضمونا خلال العقود المقبلة.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية