هل أرادت إسرائيل محاسبة قطر بإغلاقها مكاتب “الجزيرة”؟

حجم الخط
0

انضمت إسرائيل أمس إلى النادي المحترم للدول العربية، التي أغلقت بين الحين والآخر مكاتب قناة “الجزيرة” واعتقلت العاملين فيها وفرضت المقاطعة على قطر، لتدفع بقطر إلى إغلاقها. ولكن كما تعلم الزعماء العرب، فإن إغلاق المكاتب لا يمكنه منع أو إحباط نشاطات القناة التي تبث في 90 دولة ويشاهدها 350 مليون مشاهد محتمل ممن يتكلمون اللغة العربية، وملايين المشاهدين ممن يتكلمون الإنجليزية في أرجاء العالم.
القرار الذي اتخذته الحكومة بالإجماع وكأن الأمر يتعلق بالعدو الأخطر الذي يواجه إسرائيل، ظهر كنتيجة للإحباط وتصفية الحساب مع قطر. ولكن إسهامه الحقيقي في المعركة الفاشلة حول “الدعاية”، التي هي فشل شامل آخر للحكومة، يكاد يكون صفراً. إغلاق مكاتب “الجزيرة” هو اختبار لـ “شجاعة سياسية” للحكومة الإسرائيلية، الذي تشبه أهميته احتلال رفح. أصبحت “الجزيرة” الرمز الأعلى للتحريض ضد إسرائيل ودعم حماس، لكن من المهم معرفة الدواء الموجود لدى الحكومة الإسرائيلية لآلاف الحسابات في الفيسبوك والتلغرام والتك تك، المنافسين الرئيسيين للقناة والذين يوفرون معظم المضامين التي تبني صورة إسرائيل في العالم.
قد لا تتمكن “الجزيرة” من البث من مكاتبها في إسرائيل، ولكن حتى تتمكن من إظهار الدمار والقتل والجوع في قطاع غزة للعالم، لا تحتاج إلى مكاتب في تل أبيب أو رام الله لتبث المشاهد مباشرة من القطاع كما فعلت عندما نشرت حرب الولايات المتحدة ضد أفغانستان بشكل مباشر من الميدان، وبعد ذلك ضد العراق؛ وعندما بثت ظلامية الأنظمة في مصر حسني مبارك، ولاحقاً عبد الفتاح السيسي، أو ملوك السعودية أو نظام رئيس تونس السابق زين بن علي قبل اندلاع ثورة الربيع العربي وبعدها، حتى عندما تم إغلاق مكاتبها في هذه الدول.

قناة “الجزيرة”، التي أنشئت في العام 1996 على يد حاكم قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، والد الحاكم الحالي الشيخ تميم، ليست قناة تلفزيونية فحسب، بل مشروع سياسي هدف إلى خدمة القيادة في قطر كوسيلة لتشكيل الرأي العام العربي. وهذا صار نجاحاً جارفاً وسريعاً، وأصبح الشبكة الأكثر شعبية في العالم العربي خلال خمس سنوات مع 70 في المئة تقريباً من نسبة المشاهدة. أقيمت القناة كشركة خاصة لمصلحة الجمهور، وهي مزيج أصيل؛ من جهة يعطيها الاستقلالية ونشر المضامين، وفي الوقت نفسه يسمح لها بالحصول على دعم مالي سخي من الحكومة التي تدعمها وتمولها.
من البداية، لم تتفاخر قناة “الجزيرة” بأنها قناة محايدة وغير متحيزة أو متملقة. ولكن هنا كان التجديد الكبير الذي أحدثته في الخطاب العربي العام. قبلها عملت قناة ام.بي.سي التي أنشئت قبلها بسنة، لكنها نشرت بالأساس مضامين للتسلية والموضة والقليل من الأخبار. “الجزيرة” خلقت خطاباً إعلامياً عربياً ما بعد وطني، وبنت عالماً من المفاهيم الجديدة التي لم تكن معروفة في الدول العربية. استخدام القمر الاصطناعي مكنها من تجاوز القيود التي فرضتها الأنظمة العربية على قنوات التلفاز العربية؛ لعرض “واقع حقيقي” أو على الأقل بديل للواقع الذي شكلته وأملته الأنظمة، وأطلعت الجمهور على المعارضين، الذين حتى ذلك الوقت لم يكونوا معروفين بالنسبة له، للمرة الأولى في قناة عربية يظهر فيها إسرائيليون وتجرى معهم المقابلات، بما في ذلك مراسلون وسياسيون.
البرنامج الرئيسي في القناة، “الاتجاه المعاكس”، الذي يقدمه الصحافي المخضرم فيصل القاسم، تناول مواضيع كانت بمثابة طابو في أي قناة وطنية. حطمت “الجزيرة” العرض الكاذب الذي يسمى الوحدة العربية، عندما عرضت على الجمهور فجوة كبيرة بين نمط حياة الأغنياء في دول الخليج ونمط حياة الفقراء في مصر واليمن. النظام الدكتاتوري في قطر لم يُعرض للمشاهدين كجزء من هذه المعادلة، وهكذا أيضاً قطر نفسها التي يعيش فيها نحو 300 ألف شخص يتمتعون بمستوى حياة هو من الأعلى في العالم، إضافة إلى مليون ونصف عامل أجنبي، معظمهم يعيشون في ظروف صعبة.
قناة “الجزيرة” تعدّ قائدة لأنها تغير مواقف الناس ومقارباتهم. وسواء رغبتم في ذلك أم لا، فهي قناة ناجعة”، قالت في 2011 وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في شهادتها أمام لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ. هذه النجاعة هي الهدف السياسي الذي يسعى إليه حاكم قطر، الذي لم يكتف فقط باختراق الخطاب الجماهيري العربي. من خلال هذه القناة، تجاوز حدود الخطاب الديني الذي حددته الأنظمة العربية. البرنامج الشعبي “الشريعة والحياة” الذي قدمه الشيخ يوسف القرضاوي، الذي كان يعدّ الزعيم الروحي للإخوان المسلمين، أقام للمرة الأولى علاقة مباشرة بين المشاهدين والمفتي الشرعي الذي كان يجيب عن أسئلة من الحياة اليومية، التي كانت أحياناً مناقضة لخط النظام الذي تم توجيه الفقهاء لنشره. في البرنامج سُمعت أقوال لاسامية فظة ومباشرة، بما في ذلك مواعظ القرضاوي لمحاربة اليهود حتى القضاء عليهم.
ليس الأنظمة العربية وحدها التي أعلنت الحرب على القناة التي كشفت إخفاقاتها وسحبت من يدها السيطرة المطلقة على الخطاب العام. “قناة الجزيرة بوق للقاعدة ووسيلة للدعاية المناهضة لأمريكا”، قال في 2004 وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد. طريقة تغطية الحرب في العراق وصفها بأنها “مجرمة وغير دقيقة ولا تغتفر”.
لكن في الحرب ضد العراق وأفغانستان بالذات، حققت “الجزيرة” اسمها الدولي. فقد كانت القناة الوحيدة في بداية الحرب في أفغانستان التي عملت باستقلالية في الساحة التي حظر فيها على وسائل الإعلام الأخرى الدخول إلى تلك الدولة. قنوات دولية، من بينها القنوات الرئيسية في أمريكا، نشرت الأفلام التي اشترتها منها. وفي العراق، الذي اضطرت وسائل الإعلام الأجنبية للعمل فيه فقط إلى جانب قوات التحالف في بداية الحرب، كانت “الجزيرة” هي الوحيدة التي نشرت عن الدمار وقتل المدنيين. هكذا حطمت “الجزيرة” صورة “الحرب النظيفة” التي أرادت الإدارة الأمريكية تسويقها. عن ذلك، دفعت “الجزيرة ثمناً باهظاً في 2003 عندما تم قصف مكاتبها في بغداد، والمراسل المعروف فيها، طارق أيوب، قتل في قصف جوي. الولايات المتحدة، بالمناسبة، فصلت حربها ضد “الجزيرة” عن علاقاتها الوثيقة مع قطر، التي عملت فيها القاعدة الأمريكية الأكبر في الشرق الأوسط “العديد” منذ سنتين، وخرجت منها أيضاً الهجمات على أفغانستان.
“تصفية الحسابات” مع قطر عبر إغلاق مكاتب “الجزيرة” في إسرائيل لن تغير مكانة قطر في الولايات المتحدة ولن تؤثر في علاقتها مع حماس. ولكنها خطوة يجب أن تقلق جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية وأي صحافي عاقل لا ينجح في الوصول إلى ميدان القتال في غزة ويعمل مباشرة من هناك. حتى إن الإغلاق لن يطمس الحاجة إلى إجراء تحقيق جدي حول عدد الصحافيين الكبير الذين قتلوا في قطاع غزة. حسب التقرير المؤقت الذي نشرته في الأسبوع الماضي لجنة الدفاع عن الصحافيين، يدور الحديث عن 100 صحافي. وللمقارنة، قتل في العراق تقريباً 150 صحافياً بين 2003 – 2011.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 6/5/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية