هزيمة أوكرانيا… وهزيمة الغرب معها

التحلي بـ«شجاعة الراية البيضاء» والتفاوض لإنهاء الحرب المستمرة منذ عامين، هذا ما دعا إليه بابا الفاتيكان الأوكرانيين.
البابا وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية السبت الماضي، اعتبر أن «كلمة تفاوض هي كلمة شجاعة عندما ترى أنك مهزوم» مقرا في ذات الوقت بأن ما يطرحه قد يُشعر البعض بالخجل ولكنه ضروري «قبل أن تزداد الأمور سوءا».
هذه الدعوة التي رفضتها كييف وحلفاؤها ورأوا فيها دعوة إلى الاستسلام جاءت في صيغة أقرب ما تكون إلى النصيحة الذي تعترف أن معركة الأوكرانيين مع موسكو معركة خاسرة لن تقود سوى إلى الهزيمة، وهو نفس ما عبّر عنه المؤرخ والأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الصادر أخيرا، حيث سعى إلى إثبات أن هذه الهزيمة ليست فقط واقعة لا محالة، بل هي كذلك «هزيمة الغرب» وهو عنوان كتابه الصادر قبل بضعة أشهر عن دار «غاليمار» للنشر.
في بداية كتابه ينطلق الكاتب من أن الحرب الروسية الأوكرانية شأنها شأن أغلب الحروب العالمية لم تجر كما هو متوقع، كاشفة عن جملة من المفاجآت من بينها أنها تجري في قارة كانت تظن أنها تنعم باستقرار أبدي، وأنها جعلت المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا في حين كانت بين الأولى والصين، وصمود الأوكرانيين مع أن الاعتقاد كان أنهم سيسحقون بسرعة، وصمود الاقتصاد الروسي الذي كان يظن أنه سينهار، وتلاشي أية إرادة أوروبية مستقلة بذاتها، فيما تبقى المفاجأة المدوية هي عجز الصناعة العسكرية الأمريكية عن تأمين حليفتها أوكرانيا بكل ما تحتاجه من عتاد حربي.
ويمضي الكاتب في فصل كامل لشرح صلابة روسيا التي رآها من أكبر مفاجآت هذه الحرب متسائلا باستغراب عن سوء تقدير الغربيين لذلك في حين أن نقاط قوة روسيا كانت معروفة ومتاحة وبالأرقام. وبخصوص العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على روسيا فقد اعتبر الكاتب أنها «قادت روسيا إلى القيام بسلسلة من إعادة الصياغات الاقتصادية وأن تستعيد استقلالها بالنسبة إلى السوق العالمية» وبالتالي فإنه «رغم الصدمة والتكلفة التي لحقت بالاقتصاد الروسي فإن العقوبات كانت بمثابة الهدية».

التحلي بـ«شجاعة الراية البيضاء» والتفاوض لإنهاء الحرب المستمرة منذ عامين، هذا ما دعا إليه بابا الفاتيكان الأوكرانيين

ويمضي إيمانويل تود في كتابه من الحجم المتوسط وبصفحاته الـ370، والذي من المنتظر ترجمته من الفرنسية إلى لغات عديدة أخرى شأن كتبه السابقة، إلى أنه عدا الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول الأخرى مثل كندا وأستراليا واليابان فإن بقية العالم فضّل الوقوف مع روسيا وتفهّم موقفها، منتقدا نرجسية هذا الغرب وتواصل اعتقاده أنه هو مركز الكون وأنه يمثّله كلّه مع أن «العولمة التي أطلقها تنشف وعجرفته تثير السخط فالنرجسية الغربية وما يتبعها من عمى أصبحت إحدى أوراق القوة الاستراتيجية لدى روسيا».
ويرى الكاتب أن غرب العقوبات على روسيا لا يمثل سوى 12 في المئة من سكان العالم «ومع ذلك واصل المعسكر الغربي الاعتقاد والتصرّف كما أنه مازال سيّد العالم وإعلامه مُصرّ على اعتباره، هو وحده فقط، ما يُسمى المجتمع الدولي» شارحا في فقرات متتالية لماذا يتمنى «باقي العالم» (خارج هذه الكتلة الغربية المعجبة بنفسها والتي تتصرف على أنها هي العالم كله) أن تخرج روسيا منتصرة من هذه الحرب وهو ما يتوقعه الكاتب نفسه في غضون خمس سنوات.
يقول الكاتب في فصل بعنوان «لماذا اختار باقي العالم روسيا» أن «روسيا تعيش من مواردها الطبيعية ومن عملها ولا تنوي بأي طريقة فرض قيمها على العالم وهي أصلا لا تملك الوسائل، لا لاستغلال (الباقي) اقتصاديا ولا لتصدير ثقافته إليه. وفي مواجهة أمريكا تعيش بجهد وعمل (الباقي) وتعظّم له ثقافة عدمية، فإن روسيا تبدو عموما مفضّلة بالنسبة لهذا (الباقي)» وصولا لما يراه الكاتب من أن «الاتحاد السوفياتي ساهم بقوة في إزالة الاستعمار أول مرة وعدد كبير من الدول تنتظر الآن من روسيا أن تساعد في إزالته ثانية».
لقد مضى الكاتب على امتداد صفحات كتابه في تسفيه مكانة الولايات المتحدة والغرب عموما وتقهقره واهتزاز قيمه الدينية والاجتماعية ودفاعه عن قيم عجيبة الأطوار كالمثلية الجنسية، عكس بقية العالم، معتبرا أن أوروبا «انتحرت» بتبعيتها لواشنطن في حرب أوكرانيا ليصل إلى استنتاج مفاده أن هذا الغرب الحالي، بكل ما يمثله، في طريقه إلى هزيمة نكراء لأن «الوعي التاريخي للفاعلين الغربيين، وليس فقط الأمريكيين، هو في أدنى مستوياته، فحكوماتنا تتخذ قرارات لكن رؤيتها لموازين القوى الكونية، العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، ولتطوّرها، هي كما رأينا مجرد هلوسة».
ولأن الحرب الإسرائيلية على غزة فاجأت صاحب الكتاب قبل طبعه فلم يجد من مفر في إضافة فصل قصير يدعم أطروحاته عن هذا الغرب ليرى أن الدعم الأمريكي لإسرائيل بلا حدود ولا تفكير هو «عَرَض انتحاري» وأن ما يجري سيجعل من روسيا رغم حربها أمام «إمكانية أن تظهر كقوة سلام، وبالنسبة للعالم العربي فهي من الآن فصاعدا الدرع الوحيد أمام العنف المتجدد للولايات المتحدة».

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية