نظام عالمي مراوغ مهمته التدخل في شؤون الغير!

تصدعت أدمغتنا من كثرة ما يُكتب وينشر عن مبادئ المساواة بين الشعوب والدول.. وبدا ذلك رابع المستحيلات الثلاثة؛ «الغول والعنقاء والخل الوفي»، وما هو قائم على الساحات المحلية والقومية والإقليمية يؤكد ذلك ولا ينفيه، رغم كثرة الوثائق والنصوص والقرارات العديدة على مدى عقود؛ منشورة ومعتمدة عن عدم التدخل، وعدم إنتهاك أراضي دول أخرى بأي صورة من الصور، وبدا ذلك بلا معنى و«حبر على ورق»، وكل ما له علاقة بـ«القارة العربية»، وإقليم الشرق الأوسط يؤكد ذلك؛ أُرتُكِبَت في حقوق أبنائه وسكانه الجريمة الأكثر بشاعة في التاريخ، وتمثلت في إنتزاع فلسطين ومنحها لبشر وفدوا من أنحاء العالم، ومن ناحية القرارات الدولية، أسْتُثْمرت «شرعية العجز»، وانحازت للمد الاستيطاني الزاحف على الأراضي العربية والفلسطينية.
ومن يتحكم في العالم منذ الكشوف الجغرافية، بشر قامت ثقافتهم على الاغتصاب والاستيطان، وفرض الوجود بالحديد والنار، وحين أصبحوا قوة عظمى صاغوا العالم بمعاييرهم ومصالحهم وبطشهم، وساد قانون الغاب، واختلت موازين العدالة والمساواة، وزادت معها معاناة «القارة العربية»، فالعراق انقسم على نفسه بالغزو العسكري المباشر، وسوريا غزتها جحافل إرهابية وافدة من كل فج؛ لإزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وتخريب العمران، وتهجير السكان.
تسمح الدول القوية لنفسها بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، التي هي في الغالب طرف أضعف وفاقد الإرادة، وانقسم العالم إلى أكثر من فسطاط؛ فسطاط المتجبرين والطغاة، وفسطاط التقليديين ممن يقبلون بالواقع؛ بعواره وفساده، وقبول التبعية، وكل ما كان مرفوضا في زمن المد التحرري واتساع دوائره التي اتسعت للتخلص من الاستيطان والاستعمار والاحتلال، والحضور التقليدي قديم، لكنه خامل؛ على عكس المتجبرين، ونقيضهم المحسوب على الفسطاط الثالث؛ الجامع للمتطلعين لحياة أفضل وعيش كريم، ومجالات أكثر رحابة. وعلى الهامش يوجد متنطعون، وللتنطع معان تتردد على ألسنة رجال دين، ولغويين وفقهاء، وأغلبهم يغالي في الفصاحة، وفي الكلام المرسل، وادعاء المعرفة.
وغلب التنطع على النظام العالمي، مع أن المبدأ المستقر في القانون الدولي هو «أن أي انتهاك لمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه في الشؤون الداخلية والخارجية للدول، يشكل تهديداً لحرية الشعوب ولسيادة الدول واستقلالها السياسي ولسلامتها الإقليمية، وتهديداً لتنميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويُعرِّض أيضاً السلم والأمن الدوليين للخطر؛». وصدر الإعلان بعدم جواز التدخل بجميع أنواعه في الشئون الداخلية للدول؛ بما يسهم في تحقيق مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة(!!).
وضع ذلك الإعلان في اعتباره قرارات متصلة بموضوعه، ومتعلقة بمضمون مبدئه، لا سيما قرارات تضمنت مبادئ القانون الدولي؛ الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، وتعريف العدوان(!!)، وهنا مربط الفرس؛ وهو الفرق بين «عدم جواز التدخل»، وبين «وجوب عدم التدخل»، واتسمت الصياغات القانونية بالميوعة التي سمحت بالتدخل بشتى أنواعه وأشكاله ومبرراته؛ على قاعدة «الجواز»؛ أي جواز ممارسة الفعل وجواز رفضه، وليس اعتمادا على قاعدة «الوجوب والإلزام»!!.
ومن يقفون خلف هذه الصياغات، ويضعون هذه القواعد والقوانين ويصدرون القراراات المعبرة عن «الشرعية الدولية» أشبه بالمتنطعين المتشدقين بمبادئ تنهزم أمام التمييز بين دول كبرى وعظمى؛ استحوزت على حق النقض «الفيتو»، وهو أحد أهم الحقوق المتناقضة مع كم النصوص المكدسة في محفوظات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها؛ في ظاهرها رحمة وفي باطنها عذاب؛ ما دامت لا توجب ولا تمنع وتجيز وتسمح!!.

أي انتهاك لمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه في الشؤون الداخلية والخارجية للدول، يشكل تهديداً لحرية الشعوب ولسيادة الدول واستقلالها السياسي ولسلامتها الإقليمية، وتهديداً لتنميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية

وهذا بعض من نص محفوظ بـمكتبة حقوق الانسان بجامعة منيسوتا الأمريكية تحت عنوان «إعلان عدم جواز التدخل بجميع أنواعه في الشئون الداخلية للدول»، وجاء في ديباجته «أن أي انتهاك لمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه؛ في الشئون الداخلية والخارجية للدول يشكل تهديداً لحرية الشعوب ولسيادة الدول واستقلالها السياسي ولسلامتها الإقليمية، وتهديداً لتنميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويُعَرض أيضاً السلم والأمن الدوليين للخطر»
وقيل إن صدور هذا الإعلان يُسهم في تحقيق مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة؛ لا سيما قرارات عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحماية استقلالها وسيادتها، وتمت صياغته بأشكال وصور شتى تتلخص في: 1) لا يحق لأي دولة أو مجموعة من الدول أن تتدخل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لأي سبب كان، في الشؤون الداخلية والخارجية للدول الأخرى، وهذا كلام لا غبار عليه، ويناسب المنظومة الغربية، وبعيدا عنها فالوضع مختلف، وساري بين الأقوياء، وعلى المستوى النظري فذلك مناسب ومقبول!، 2) ويشمل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية للدول الحقوق والواجبات التالية، وهي كما جاءت في النص: (أ) سيادة جميع الدول (الغربية)، واستقلالها السياسي، وسلامتها الإقليمية، ووحدتها الوطنية، وأمنها، فضلاً عن الهوية الوطنية، والتراث الثقافي لسكانها. (ب) حق الدولة (الغربية) السيادي غير القابل للتصرف في تقرير نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي بحرية، وفي تنمية علاقاتها الدولية وفي ممارسة سيادتها الدائمة على مواردها الطبيعية وفقاً لإرادة شعبها دون تدخل أو تداخل أو تخريب أو قسر أو تهديد من الخارج بأي شكل من الأشكال. (ج) حق الدول والشعوب (الغربية) في الوصول الحر إلى المعلومات وفي تطوير نظامها الإعلامي ووسائط إعلامها الجماهيري تطويراً تاماً دون تدخل، وفى استخدام وسائط إعلامها الجماهيري في تعزيز مصالحها وأمانيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
والسؤال القاصر على الدول والشعوب الغربية، التي وُضِعت بين قوسين في ثنايا السطور، لا علاقة له بالواقع المعاش لغير الغربيين، فالرد عليه يتوقف على الجواز وعدم الجواز، وليس الوجوب وعدم الوجوب، ومعناه إن القانون الدولي المعتمد على صياغات مراوغة غير قاطعة، فالجواز واحتمالات التأويل غير الوجوب وقوة الإلزام، ويبدو أنه صِيغ خصيصا لصالح الأقوياء. (أ) حق الدول (الغربية) وواجبها في الاشتراك بنشاط وعلى قدم المساواة في حل القضايا الدولية المعلقة، مساهمة بذلك إسهاما ايجابياً في إزالة أسباب المنازعات والتدخل؛ (ب) حق الدول (الغربية) وواجبها أن تدعم دعماً تاماً حق تقرير المصير والحرية والاستقلال للشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية أو الاحتلال الأجنبي أو النظم العنصرية، فضلاً عن حق هذه الشعوب في أن تخوض كفاحاً سياسياً ومسلحاً معاً تحقيقاً لهذه الغاية، وفقاً لمقاصد ومبادئ الميثاق.
(ج) حق الدول (الغربية) وواجبها في مراعاة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتعزيزها والدفاع عنها داخل أقاليمها الوطنية، والعمل على القضاء على الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق دولها وشعوبها، وبوجه خاص، العمل على القضاء على الفصل العنصري وجميع أشكال التمييز. (د) حق الدول (الغربية) وواجبها، داخل إطار حقوقها الدستورية، في مكافحة نشر الأنباء الكاذبة أو المشوهة التي يمكن تفسيرها على أنها تَدَخل في الشئون الداخلية للدول، أو على أنها تضر بتعزيز السلم والتعاون، وبالعلاقات الودية بين الدول والأمم!!؛ (هـ) حق الدول (الغربية) وواجبها في عدم الاعتراف بالأوضاع التي تنشأ نتيجة التهديد باستعمال القوة أو استعمالها أو بالأفعال التي تحدث انتهاكاً لمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه!!.
ولو تم الأخذ بمثل هذه المبادئ دون تمييز، ووُضِعت قواعد ملزمة لتطبيقها، ما كان ما وقع لفلسطين وللاتحاد اليوغسلافي السابق، وللدول الإفريقية وفلسطين والعراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن؛ ما كان قد وقع، وما استمرت الانتهاكات الدائمة لحقوق الفلسطينيين؛ وسلب حق الحياة منهم لحساب المستوطنين، وتحت ضغط وتمويل ودعم المنظومة الغربية، التي تستعيد تاريخها وتراثها الاستيطاني والاستعماري الطويل، وتأتي قرارات وصياغاتها المراوغة؛ تعزيزا للفوضى والإرهاب والعنف، والاقتتال الأهلي، والجرائم المنظمة، والفساد السياسي، وكلها تصب في مجرى مواقف مراوغة ومضللة، وتشير لنفاذ رصيد اللاعبين الكبار، الذين شاخوا وشاخت معهم نظام دولي يحتضر، لكنه لا يفسح المجال لظهور نظام بديل شاب؛ أكثر عدلا وأمنا، وهل ذلك ممكن في ظروف تجاوز الزمن للقوى الغربية الكبرى؟.. سؤال ينتظر إجابة عاجلة!.
كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الصعيدي المصري:

    المفارقة ان اغلب المنظرين والمتباكين على حرية الشعوب العربية والذين يصدعون رؤوسنا ليل نهار عن مساويء الاستعمار واستبداد الغرب .. هؤلاء كانوا اول الداعمين لسلطات وحكام اتو بانقلابات عسكرية وحرقو جثث المدافعين عن شرعية الصندوق .. لا يجوز لامثال هولاء ( المتنوخبين ) الاستمرار في التنظير على ذات النحو .. فالفعل والواقع يكذب مقالاتهم وتحليلاتهم .. وان احتوت على جزء من الصدق او الحقيقة .. رائحة احتراق جثث ضحايا الانقلاب العسكري في مصر .. على سبيل المثال لا الحصر تصرخ مكذبة رياء المنافقين ..

  2. يقول نصيب خميسي:

    السكوت علامة الرضا في كل الدول العربية

  3. يقول مهدي المولى:

    ان العالم واقع تحت نير قوة وحشية غاشمة بقيادة الولايات المتحدة هدفها ان تجعل من شعوب الارض بقر حلوب وكلاب حراسة لها ولمصالحها الغير شرعية وما نسمعه من كلمات في الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيلة لتضليل الشعوب وقهرها

إشترك في قائمتنا البريدية