مَناسِكُ الأزرقِ: إطلالة على معرض الفنانة المغربية أحلام المسفر

تتمثل الغايةُ المتوخاة من زيارتك لمعرض تشكيلي ما، في إنصاتك لما تطرحه لوحاته أو منحوتاته من أسئلة، وما تثيره لديك من إشكاليات، إذ لا تنحصر العِبرة في استمتاعك المؤقت والظرفي بحميمية المعرض، بما هو مجال للتخلص من رتابة الواقع وتخمة مرئياته، بقدر ما يكون مجالا للارتقاء بهذه المتعة إلى مستوى أكثرَ تقدما، والمعبر عنه، بعمق ذلك التفاعل الفكري والفني، الذي ينشأ بينك وبين ما أنت بصدد رؤيته، وإعمال النظر فيه. فلا قيمة لمعرض يتحمل عبء استقبال حشد من الزوار، فقط من أجل أن تتاح لهم فرصة الثرثرة، وتبادل التملِّي في قبَّعات بعضهم البعض، دونما حاجة للاهتمام بما هو مثْبتٌ على جدران المكان، أو متوزع على جنباته.
خالجني هذا الشعور، وأنا في الطريق إلى القاعة قصْد التعرف على الأعمال الجديدة، للتشكيلة المغربية أحلام المْسَفَّر، المعروضة مؤخرا بمدينة طنجة، وإشارتي إلى «الأعمال الجديدة» تنطلق من صلتي القديمة بمساراتها الفنية، التي رسَّخت لديَّ مسَلَّمةَ انْتمائِها الحتمي لعوالم التشكيل، بما هو استغراق صوفي في طقوسه، واستجابة غير مشروطة لنداءات كائناته.
تلك هي الفنانة أحلام، التي نسْتشِفُّ من تعدد وتنوع مساراتها، حُلولَها الكامل في بوْتقة اللون، بحثا عن تلك الحقائق السعيدة بانغلاقها على غموضها، وتَكَتُّمها على هِباتها. فمن محْفَلٍ جمالي لنقيضه، ومن أرض تشكيلية لأخرى، نراها تمضي حاملة ولَهَهَا الباذخ بالسؤال، ومسكونة بفتنة استنطاقه، عساه يبوح قليلا.
ثم ها أنت ذا الآن في حضرة الأزرق. الاسم الذي اختارته أخيرا أحلام، بوصفه إطارا جماليا يشمل كافة أعمالها المعروضة، المتميزة بثانية حضورها التَّلويني والنَّحتي. مع التنويه بأن السلطة الشمولية لهذا الإطار/ الاسم، أعْفَتِ الأعمال المعروضة من جدوى امتلاكها لاسمها الشخصي الخاص بها، حيث ما شكل هنا بحاجة إلى علامة دالة تلتصق به، ليتميز به عمَّا جاوره من تشكيلات، مادام الأزرق هنا يلح على الاحتفاظ بوحدته، وغير قابل لأن يُجَزَّأَ أو يُوزَّع على قِطَعٍ مقننة أو محددة سلفا ببنية مُعْلنة ومُعطاة، تستدعي وضع اسم شخصي، يليق بها وحدها دون غيرها. إذ يكفي أنها انبثقت من رحم الأزرق كأصل جِينِيٍّ لسُلالتها. وبالتالي، فإن إعفاء اللوحات من أسماء تعْيِينِيَّةٍ تُعرف بها، يفيد ضمنيا، قابليتها التلقائية للاندماج في بعضها، بما يفضي في نهاية المطاف، إلى إبداع جسد تشكيلي كبير، متحرك في كل الاتجاهات المتوقعة وغير المتوقعة، كحالة فيْضٍ دلاليٍّ لا يقر لانتشاره قرار. جسد تتوزع أعضاؤه على فضاء المعرض كما على خارجه، دون أن يمتلك بالضرورة هندسة ثابتة ومحددة قابلة للحصر والتوصيف.
فتلافي تسمية اللوحات، من شأنه الحفاظ على جَذْوَةِ الاسم الكبير /الأزرق، بما هو رحِمٌ مَرجعي وأساسي، تنْدلق منه كافة الأعمال المعروضة، التي أمست تبعا لذلك بالقوة والفعل، مالكةً لِحق تجسيد الاسم العام. فضمن هذه الاستراتيجية، يصبح كل عمل في ذاته تجسيدا مباشرا للمعرض ككل. أي إن جميع اللوحات المعروضة، تُحيل ضمنيا على غيرها، استنادا على تلك الرابطة الخفية، التي يؤسسها الاسم المركزي/ الأزرق.

هكذا ومن هذا المنطلق يتمكن الأزرق من الحفاظ على هويته، رغم مغادرة اللوحات فضاء العرض، حيث نجد أنفسنا أمام هوية مشروطة بالوحدة، رغم تفرق تفاصيلها /لوحاتها، في متاهات الجغرافيا المنذورة لتباينها وتنوعها، باعتبار أن مصير اللوحة يظل غامضا فور مغادرتها لفضاء العرض، حيث تشرع مباشرة في ممارسة حياتها الخاصة، انسجاما مع خصوصية وأهواء اليد التي تنتقيها.
فوفق هذا المصير المؤثر تلقائيا في توجيه حياة اللوحة وسيرتها المستقبلية، يظل الأزرق بمثابة الخيط الناظم لجميع أعماله، التي مهْما اسْتقلَّتْ بتنقلاتها وأسفارها، إلا أنها ومع ذلك، تحتفظ بانتمائها الجِينِي إلى رحمه، أنَّى شَطَّ بها المزار. فباسمه فقط تعرف، وباسمه لا غير يُسْتدَلُّ على هويتها، وروحها، وجوهرها.
من هنا يمكن القول، إن الأزرق، وتبعا لتوزع الأمكنة والجهات، التي تستطيب كل لوحة من لوحاته إقامتها الدائمة أو المؤقتة فيها، يستطيع أن يؤسس لشَبَكة خفِيَّة وغير معلنة، من الإشارات المتبادلة بين لوحاته. وهي على العموم، إشارات مترعة بوهج الرؤية المتعددة الأبعاد، التي بها ومنها يتشكل الرحم الأصلي.
وسيكون من الضروري في هذا السياق، استكناه مصادر الرؤية التي نحن بصددها، أو بالأحرى، مصادر البؤر الضوئية، التي تنبعث منها إشعارات الأزرق. فالأزرق هنا ليس مجرد لون محايِد، تستحضره الذاكرة البصرية ضمن ألوان أخرى. وليس محض دليل رمزي، يحيل على مجموع تلك الأحوال النفسية، التي يحدث أن تعتري الذات خلال ترحالها الدائم في عوالمها البرَّانِية والجوانية. أيضا، ليس مجرد توصيف ماديٍّ، تتعرف به العناصر على ذاتها. إنه فضلا عن هذا وذاك، خلاصة تمَظْهُرٍ جمالي لذلك الأفق الفكري، الذي دأبت الفنانة أحلام على استشرافه، خلال مسارات تجربتها التشكيلية، مع التذكير بأن حركية هذا الأفق المؤثرة في تحوله، تنسجم مع الخصوصية الفكرية والفنية، التي تتميز بها كل مرحلة من مراحل امتداداته وتطوره، فضلا عن طبيعة المسارات المُفضية إليه. وهي على العموم مسارات قوامُها التفاعل الإيجابي والخلاَّق، الصادر عن الذات المبدعة تجاه كل من محيطها الفني والمجتمعي. أي السياق الذي تمدنا فيه سيرة أحلام، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، بما يكفي من المعطيات الدالة على عمْق وسَدادِ قناعات فكرية، قوامها الانتصار لحق الإنسان في الوجود، عبر التصدي لكل الممارسات المتسلطة، المتجاوزة لأسس هذا الحق ومقتضياته.
وهي نفس القناعات التي دأبت على اعتمادها الفنانةُ في ممارسة حضورها التشكيلي، لعدة عقود خلَتْ في رحاب المنتديات الدولية والعربية، حيث تتسع بوتقة الرؤية، كي يتوحَّد فيها الإنساني بالفني، على قاعدة اختيارات حداثية متقدمة، تتموضع في صُلبها نداءاتُ الكوني. إذ في قلب هذه التَّمفْصُلات، تبلورت تجربة أحلام الفنية ولاتزال، عبر تلمُّسِها لمساراتها المتطلعة لأفق الاسْتحالة الجمالية، بما هو إمْكان مُؤجل، وقابلٌ للتَّحْيِين.
وفي اعتقادنا أن تجربتها القديمة، القيِّمة والتأسيسية، التي أوغلَت بها في منابع الطبيعة البكر، كانت مختبرها الحقيقي لمساءلة أسرار الذات، في علاقتها بأسرار الوجود. بمعنى أن حلولها الجمالي والمبكر في المشاهد الطبيعية المُجسَّدة والملموسة، أتاح لها إمكانية التفاعل الروحي والمجرد مع خِيمياء اللون، بوصفها عناصر تكوينية لها ثِقْلُها الكبير في لعبة الخلق الأولى. وبالتالي، فإن مساءلة اللون الذي به يتحقق جسد الوجود، كانت بمثابة خطوة حاسمة لتحْيِيدِه، وفصْلِه مؤقتا عن مجسَّماته الدالة عليه والدال عليها، كي يتحدث بما لم يخطر من قبل على قلب الكلام.
هكذا ستشرع لاحقا الفنانة أحلام في الانْتِشاء بأسْفارها التجريدية مع أسئلة اللون، مصغية إلي إيقاعات تنويعاته الخام والبدْئِيَّة، إلى أن انتهى بها المطاف مؤخرا إلى كينونة الأزرق، الذي هو الآن ماثل أمامك بحكمته الآسرة، بإنشاده الخافت، وفيضه الجارف لمدارات اللغة، كي يوقظ فيك أزمنتك الأخرى، تلك المقيمة فيك، والناطقة بما لم تره العين بعد. وهي حتما أزمنتك القادمة إليك من خلوات مناسكه العصية، ومن عمق مجاهله، وليالي بَرارِيه. الأزرقُ الذي يأخذ هنا والآن، شكل الحالة/الأحوال، الملازمة لأسفار الفراغ، الباحث أبدا عن مقاماته ومنازله.

شاعر وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية