من هي الدول المسؤولة عن نكبة النازحين في الشرق الأوسط؟

حجم الخط
0

النازحون أزمة عاتية تعانيها معظم دول المشرق العربي، هي في الأساس من صنع دول مخطط سايكس- بيكو (وفرنسا) إلاّ أن دولاً أخرى أبرزها الولايات المتحدة، شاركت في صنعها. مخطط سايكس- بيكو (1917) انطوى في البدء على محورين سياسي وديموغرافي. المحور السياسي قضى بتقسيم ميراث السلطنة العثمانية المنهزمة في الحرب العالمية الأولى 1914- 1918والمنسحبة من بلاد الشام وبلاد الرافدين والحجاز واليمن، إلى إقامة دول لبنان وسوريا والعراق والأردن والحجاز، وبانسحابها من اليمن الساحلي مكّنت اليمن السعيد باستقلاله من ضمه إلى دولته. فلسطين احتلها الاستعمار البريطاني الذي انتدب نفسه على العراق والأردن أيضاً. فرنسا انتدبت نفسها على لبنان وسوريا. وكانت بريطانيا قد أعلنت وعد بلفور الذي منحت بموجبه اليهود «الحق» بوطن قومي لهم في فلسطين، ثم ما لبثت أن انسحبت من فلسطين سنة 1948 لتمكين اليهود الصهاينة من إقامة دولة لهم فيها. المحور الديموغرافي انطوى على سياسات وخطط قضت بتقسيم كلٍّ من لبنان وسوريا والعراق إلى مناطق ذات طابع طائفي ومذهبي غالب.
المثير والمقلق أن كِلا الحكمين الفرنسي في لبنان وسوريا، والبريطاني في العراق والأردن وفلسطين كانا يستخدمان القبائل والعشائر والطوائف والتجمعات المحلية الكائنة في مكان سيطرتهما الواحدة ضد الأخرى، كي يوطدا سلطتهما ونفوذهما، الأمر الذي عمّق العصبيات المحلية والطائفية والمذهبية، وتسبّب في نزوح بعض الأقليات من مناطق إلى أخرى كانت الغالبية فيها من طائفة النازحين.
غير أن الطامة الكبرى حدثت بعد ذلك في كلٍّ من العراق وسوريا، ففي العراق، أعقب الغزو الأمريكي لإسقاط نظام صدام حسين سنة 2003 عزفٌ شديد على الأوتار الطائفية والمذهبية، ما تسبّب في نزوح جماعات كبيرة من قبائل ومذاهب متعددة من منطقة إلى أخرى. الأمر نفسه حدث في سوريا في أعقاب التدخلات الإقليمية والأجنبية سنة 2011، حيث جرى استجلاب ميليشيات طائفية ومجموعات إسلاموية من الخارج متحالفة مع شبيهات لها في الداخل، لمحاربة الحكومة المركزية في دمشق، كما لمحاربة مجموعات أخرى ذات طابع سياسي أو مذهبي مغاير، تسبّب بحرب أهلية دامت أكثر من سبع سنوات، إلى أن استعادت الحكومة المركزية سيطرتها على معظم المناطق التي كانت مسرحاً لاشتباكات عسكرية طويلة خلّفت أضراراً بشرية ومادية كثيرة وباهظة.

مشكلة النازحين اليوم ليست محلية، بل هي جزء من مشكلة عربية عامة، وعلى الحكومات المتضررة منها تحميل دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مسؤولية الأضرار البشرية والمادية الناجمة عنها

في لبنان، اندلعت اضطرابات دامية خلّفت أضراراً من نوعين: الأول مصدره اصطدامات طائفية سنة 1975 تطورت إلى حرب أهلية لم تتوقف إلاّ بعد إقرار اتفاق الوفاق الوطني في الطائف (السعودية) سنة 1989. الثاني مصدره نزوح جماعات من المسيحيين والمسلمين من مناطق كانوا يشكّلون فيها أقلية، إلى أخرى يشكّلون فيها أكثرية. زاد الطين بلّة، أن الحرب الأهلية في سوريا تسبّبت بتردي الأوضاع الاقتصادية والبطالة، وبالتالي إلى هجرة لا أقل من ثلاثة ملايين سوري إلى لبنان ما تسبّب بتعميق الأزمة الاقتصادية والمعيشية المستشرية أصلاً.
في فلسطين، لم تتورع «إسرائيل» بدعمٍ من الولايات المتحدة عن تدمير أقسامٍ واسعة من المدن والبلدات في قطاع غزة، وتهجير سكانها إلى جنوب القطاع والعمل بلا هوادة لتهجيرهم إلى صحراء سيناء المصرية، كما العمل بالوتيرة نفسها لتهجير سكان الضفة الغربية إلى الأردن.
يتضح من مجمل ما تقدّم بيانه أن لبريطانيا وفرنسا، كما للولايات المتحدة، إسهاما قديما وواسعا وعنيفا في أزمة النازحين التي يشكو منها لبنان وفلسطين خصوصاً، وسائر دول المشرق العربي عموماً، الأمر الذي يستوجب تحميلها مسؤولية الأضرار التي لحقت وتلحق بالنازحين في الدول التي نزحوا منها أو إليها. من المفارقات المضحكة المبكية أن فرنسا إحدى دول سايكس- بيكو، أخذت تشكو من مخاطر نزوح النازحين السوريين إليها فتظلّمت أخيراً إلى الاتحاد الأوروبي، الذي قام بإيفاد رئيسة المفوضية الاوروبية أورسولا فون دورلاين برفقة الرئيس القبرصي نيكوس خريستو دوليسيدس إلى لبنان، بغية الضغط على حكومته لتشديد تدابيرها الهادفة إلى منع النازحين السوريين من التوجه بحراً إلى قبرص وفرنسان وسائر الدول الأوروبية المتوسطية. غير أن المسؤولة الأوروبية لم تنسَ أن ما تطلبه من الحكومة اللبنانية لا يمكن أن يؤتي ثماره بلا ثمن، فكان أن أعلنت اعتزام الاتحاد الأوروبي دعم لبنان بمبلغ مليار يورو على 4 سنوات كي توزّع على «دعم الخدمات الأساسية للفئات الأكثر ضعفاً بمن فيهم اللاجئون والمهجرون داخلياً والمجتمعات المضيفة، والمساندة في الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، ودعم إدارة الحدود والهجرة، وتعزيز الدعم المقدم للجيش اللبناني». هذه المساعدات الهزيلة اعتبرتها الدوائر الرسمية كما القوى الوطنية في لبنان مجرد رشوة لضمان السكوت عن سياسة أوروبا التي تدعمها أمريكا والقاضية بالضغط على لبنان لإبقاء النازحين السوريين في ربوعه، والعمل على توطينهم فيها للحؤول دون نزوحهم إلى دول أوروبا والتسبّب بازدياد منافسة الأيدي العاملة الأوروبية. هذا في لبنان وسوريا، أما في فلسطين فقد انبرت الولايات المتحدة إلى «مساعدة» النازحين بإلقاء حِزَم الأغذية من الجو على شاطئ غزة، حيث يقع بعضها على رؤوس الفتيان المتنافسين على تلقيها فيُقتل بعضهم وتقوم القوات الإسرائيلية بحصد بعضهم الآخر، بعدما وجدت في تجمّعهم على الشاطئ لتلقي رزم الغذاء مصيدةً مناسبة لقتل الكثير منهم. إن مشكلة النازحين في أي دولة عربية مشرقية اليوم ليست محلية، بل هي جزء من مشكلة عربية عامة، وعلى الحكومات العربية المتضررة من عمليات النزوح المتواصلة، أن تتفق في ما بينها على سياسة تقوم بموجبها بتحميل دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مسؤولية الأضرار البشرية والمادية الناجمة عنها، وأن تقوم تالياً بصرف التعويضات المتوجبة في هذا السبيل، كما يجب الضغط على حكومات أوروبا وأمريكا كي تضغط بدورها على الأمم المتحدة ومؤسساتها ذات الصلة كي تعدّل شروط المساعدات المالية التي تدفعها للنازحين السوريين في لبنان، بحيث يكون تسديدها إليهم مشروطاً بعودتهم إلى الإقامة في مناطق سكنهم الأصلية بسوريا. ذلك أن تسديدها في لبنان يشجعهم على البقاء والتوطّن فيه، ويخدم سياسة دول أوروبا وأمريكا الساعية إلى توطينهم في لبنان وإيجاد ميزان ديموغرافي جديد في البلاد من شأنه التسبّب بنزاعات بين قيادات الطوائف المتصارعة على السلطة والنفوذ من جهة، ومن جهة أخرى بدعم نفوذ بعض القيادات التي تمانع باعتماد سياسة توطين النازحين السوريين كونهم من غالبية مذهبية معينة. الحقيقة أن المنظومات الحاكمة في معظم عالم العرب لا يُرتجي منها مبادرة فاعلة. لذا يجدر بالقوى الوطنية والنهضوية الحيّة المبادرة للضغط عليها كي تتوافق وتتضامن بغية الضغط على دول أوروبا وأمريكا والأمم المتحدة لتسهيل إعادة النازحين إلى ديارهم من جهة، ومن جهة أخرى بغية إقامة صندوق عربي للإغاثة والرعاية الاجتماعية تموّله الدول العربية المتضررة من النزوح، تصديراً واستقبالاً والدول النفطية الغنية كي يسهم بدورٍ في عملية إعادة موضعة النازحين في ديارهم.
على دول سايكس- بيكو وأمريكا أن تعوّض النازحين العرب في ديارهم المشرقية الأضرار التي ألحقتها بهم نتيجة سياستها الاستعمارية البغيضة.

كاتب لبناني
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية