من فحم يوسف عبدلكي الى وجوه خالد الخاني الحكاية السورية في معرضين باريسيين

حجم الخط
0

ربما لم تكن أكثر من مصادفة تلك التي جمعت في وقت واحد معرضين منفصلين في باريس لفنانَين سوريين، لكنها مصادفة تشير إلى اتساع حضور الهم السوري بتعبيراته الفنية والأدبية. هكذا وجدت المدينة الآمنة نفسها على موعد مع تشكيليين قادمين من بلاد الرعب. سوريا المفعمة بالصور الصادمة، والصرخات الجارحة، والنازفة بأسئلة وجودية تحيل كل الشعارات إلى رماد، كانت تتجلى بعنف في المعرضين، في لغة فنانين يحملان هموم شعبهما، وينقلان ظلال الحرب البعيدة القريبة إلى المدينة التي ودعت آخر حروبها قبل سبعين عاماً.

عبثية الموت على نصل الفحم

يعرف يوسف عبدلكي باريس جيداً، هي عين منفاه الذي أقام فيه منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى أن عاد إلى دمشق عام 2005. مدينة لم يمنحها عبدلكي معرضاً للوحاته لسنوات طويلة قبل أن يقيم معرضه الباريسي الأول عام 2002 في صالة كلود لومان Galerie Claude Lemand، الصالة ذاتها التي عادت فأفسحت جدرانها ليوسف عبدلكي القادم هذه المرة من بلد يصارع الاحتضار بالمخاض.
هوية متكاملة يحملها هذا السواد الفني، يكفي أن تطل على لوحات يوسف عبدلكي من بعيد حتى تشعر وكأن خط الفحم ظلل عينيك، وتركك متعباً من البؤس القاتم لهذا العالم. يحدد الفحم مسارك قبل أن تمعن النظر في التفاصيل الدقيقة لليد الماهرة، قبل أن تنزلق عينك فوق مسمار يدق قلب تفاحة، مسمار يبدو محايداً لكن رأسه الحاد يخرق لحم البساطة. مجرم صغير وقادر هذا المسمار الذي يدق في لوحة أخرى رأس فرشاة الرسم ويثبتها في اللوحة. مسمار يستحيل دبوساً يخترق بصمت قلباً في لوحة أخرى ويخرج من الطرف الآخر، ليس شوكة القلب التي كانت توجع محمود درويش ويعبدها، لكنها دبوس القلب الذي يطعن بهدوء نبض الحياة ويستريح. يجمع عبدلكي في كثير من لوحاته ما بين هذا النصل القاتل ولحم الحياة. وكأنه يرتشف احتمال الوجود ‘من حد السكاكين’ ليحكي قصة الصراع الصعب في سوريا منذ نصف قرن عبر مشهد عار لجريمة كامنة بلا دماء.
مذهلة قدرة عبدلكي على خلق التفاصيل الحية من الطبيعة الميتة، من الكائنات المتروكة منذ الأزل بلا عين مكترثة. أسماكه وعصافيره الميتة بعيون مفتوحة على الخواء، وعلى وجدان الناظر إليها، تبحث في فراغ السواد عن معنى لكل هذا الموت المجاني. الموت الذي يعتبره عبدلكي رمزاً للعدالة المفقودة، لعبثية ظالمة. يعرش الموت في لوحاته لا ليكون سيدها، لكن ليكون دبوس قلوبنا في السؤال عن الحياة حين نجعلها مقدمة للموت. موت حاضر، وموت راحل بعد أن ترك آثاره جمجمةَ إنسان تسأل فراشةٌ بقربها عن ضوء العقل الذي انطفأ، وجمجمة ثور تركت صحارى القفر، ورُميت هنا أمام أعيننا مقيدة، وكأنها الإعلان عن القيد الذي يحاصرنا حتى في موتنا.
الكائنات القليلة التي يشكلها عبدلكي منذ نهايات القرن الماضي لتكون مسرحاً قاتماً لأيامنا المكبلة بالاستبداد والظلام، تستمر مع الثورة السورية. تستمر وكأنها كانت نبوءة اللوحة إذ كشفت مبكراً عن شكل القلب والضمير، عن جوهر وجودنا المظلم الذي كانت تستره دورة الحياة المبرمجة في سوريا الاستبداد. هل كان يدرك الفنان السوري حين أخرج كائناته الميتة من النسيان أن عشرات الآلاف من أبناء شعبه سيسقطون قتلى في هذا الهامش المظلم!
فحم يوسف عبدلكي بتفاصيله الواخزة كان يرسم ما لم نكن نريد رؤيته في الصمت الذي اتفق عليه جميع المقهورين كي لا يُسمّوا ذُلّهم ذلاً. يظل عبدلكي مخلصاً لرؤيته، لكن الحدث السوري زلزل كل شيء فيه وحَوْله، كما يقول عبدلكي، لذلك لم يكن فنه خارج تأثير اللحظة العنيفة. لتظهر حكايات جديدة في لوحاته تُكمل فصول الأسطورة. هكذا يصعد البشر قافلة حداد إلى صدر رسوماته، بحزنهم ولوعة موتهم وموت أهاليهم، وهكذا تخط الكلمات معناها الصريح على جدار لوحاته، فحكاية الثورة بدأت بكلمة فوق جدار، بينما ينفجر اللون القاني في كل أنحاء الجسد السوري فيجد طريقه إلى الفحم العنيد.

بحثاً عن صورة القاتل
في عين القتيل

اللون هو العالم الأصلي لتشكيل خالد الخاني. لون يحاور، يجادل، ويطلق قراره واضحاً، بألا شيء من الأشكال المرسومة يمكن أن يسقط في كذبة الوضوح. يرسم الخاني بروح لاهثة وكأنها خرجت للتو من أشلاء المجزرة. وهل يحتاج أحدنا شيئاً في معمعة الجثث والجراح أكثر من رؤية الوجه، من التعرف على هذا الذي سُفح دمه على غفلة من العمر والطبيعة. وجه لا ملامح تجعله يحمل اسماً، لكنه يحمل كل الأسماء، هو هذا المسجى فوق أو بين تلال المجازر، باحثاً عن حكايته الخاصة. لكن الحكايات كما أصحابها القتلى، تتداخل أوائلها بأواخرها، ضحكاتها بدمعاتها، إيديها بأرجلها، فلا تترك فرصة لبذخ امتلاك الجثة الواحدة لحكاية واحدة. أما العيون التي كان يمكن أن تحكي لنا عن الروح التي تحملها، صافية واضحة دون سواها، فتلك انطفأ نورها قبل حين، وأقفلت أجفانها على صورة القاتل الذي سرق آخر نظراتها المفجوعة، ومضى.
جارحة تكوينات خالد الخاني، محملة بآلام حماه 1982، بوجع المجزرة المكتومة التي سرقت طفولته ووالده. لتبقى روحه معلقة بالنواعير النائحة على دماء أهلها، على جثثهم الممثل بها، وعلى العيون المقتلعة بمخلب السفاح.
لا يتخلى الخاني عن منبع جرحه في معرضه الباريسي في صالة أوروبيا Europia، وكأنه ينادي في أعماله ‘تعالوا ننتمي للمجزرة’. يستمر في مقارعته لطاغية جعل من مجزرة حماه واحدة بين مئات. يحكي الخاني عن الثورة التي كانت أكبر أحلامه بلوحة من دم وتراب. تتلبسه الثورة، كما يقول، فيعيد اكتشاف عناصره، يعيد اكتشاف ألوانه وأدواته. فالتعبير الفني بالنسبة إليه اليوم ليس حصته فقط من ملحمة الثورة، بل هو ‘دواء ضروري لعلاج الروح أمام فظاعة ما يحصل’. لكن شيئاً لا يقلل لدى خالد الخاني من عظمة الشعب الذي يحوّل ضعفه إلى قوة في مواجهة أعداء يهبّون عليه من كل حدب وصوب. شيئاً لا يقلل من عظمة الثورة، رغم أخطائها وسقطاتها. أما مغامرته الفنية فتبقى دائماً: ‘أن أكون على قدر الثورة، أن أكون على قدر هذا الشعب العظيم!’.

باريس فتّانة.. ‘والقلب لا يضحك’

اختار يوسف عبدلكي أن يبقى في دمشق خلال الثورة، وهو إذ يخرج منها لمعرض لم يتح في مدينته، فسرعان ما يعود إليها بإرادة مطمئنة. واختار خالد أن يغادر البلاد هرباً من الملاحقة الأمنية، لكن وجوده في باريس منذ نحو سنتين لا يغير من التزامه وانتمائه. فالفنان الذي يقول إنه لا يجد معنى للفن خارج ملحمة البشر، يعيش أيامه على نبض الثورة. لا حدث في باريس يسرق انتباهه عن غليان التاريخ في بلاده. غير أن المدينة التي تراكم فناً وفنانين على اتساع الزمان والمكان، لا يمكن أن تترك الفنان آمناً. يقول الخاني إنه عاش ‘صدمة فنية’ أمام أروقة باريس الفنية. خالد الذي لا يُجمّل صراحته، يعتبر أن الحياة الفنية والثقافية في سوريا كانت، كما كل شيء هناك، مجرد فقاعات وكذب يغلف المسرحية الكئيبة. لم تختف يوماً التجارب الفردية الناجحة، لكن سوريا الاستبداد، يضيف الخاني، كانت عصية على أي حراك جماعي مهما حاول اختراع مسافات تبعده عن السياسة!
صدمة خالد الخاني الفنية في باريس، كان عبدلكي قد عاشها دهشة بصرية حين وصوله إلى المدينة العريقة قبل أكثر من ثلاثين عاماً. لكن سحر هذه المدينة يُضيف ولا ينتقص. عظمة الفن في عالميته لا تطال من خصوصيتهما. تتسع الرؤيا كيف تشاء، دون أن يشوه ذلك من هوية تجربتهما، أو أن يهزّ الثقة المعجونة بهموم البلاد.
يوسف عبدلكي وخالد الخاني اللذان جمعتهما لحظة باريس، وحكايات الثورة السورية، يبحر كل منهما في محيطه الخاص. لكل منهما جيله وتجربته الفنية، ولكل منهما تقنياته ورؤيته التشكيلية. غير أن التحدي الأكبر الذي يجمعهما هو أن يمتلك الإنجاز الفني من الحساسية والجمال والذكاء ما يجعله جديراً بالحدث الزلزال. فأمام هول اللحظة السورية لا مكان لفنّ لا يوغل في عمق أسئلة الشعب المحاصر، ولا يرتقي إلى سماء الحلم السوري وقد غصّت بالشهداء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية