من رواد القصة الفلسطينية بعد النكبة… «قوت الأبناء» لأكرم أبو حنا والابتهاج بنهضة المرأة العاملة

حجم الخط
0

أكرم أبو حنا (1928 – 1973) الذي غيبه الموت في ريعان الشباب، رسامٌ وقاص فلسطيني مبدع، في رسم واقع مجتمعه الفلسطيني القروي. لم يأبه أبو حنا بخلخلة البنيان الاجتماعي الفلسطيني الذكوري، في فترة هيمنته وتسلطه في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ويعد من الرعيل الأول من كتاب القصة الفلسطينيين الباقين في وطنهم، الذين كتبوا بعد النكبة قصصا ناضجة فنيا. برز اسمه في كتابة القصة القصيرة، ونشرها في الصحف والمجلات المحلية، جمعت قصصه بعد وفاته، وصدرت في مطبعة الناصرة عام 1975 بعنوان « قوت الأبناء» لكن الكاتب مغيب من سرديات المشهد القصصي الفلسطيني، حيث لم تحظ قصصه الجريئة والناضجة فنيا بالدراسة والاهتمام.
أكرم أبو حنا، صاحب اللغة الشاعرية الأنيقة، المكحلة باللغة المحكية، ذات الخصوصية الفلسطينية الفلاحية أثناء الحوار، لمسح قصصه بالواقعية.
عاش في الناصرة بلد الأدب والشعر، التي منها خليل بيدس (1875-1949) صاحب رواية «الوارث « 1912، التي يعتبرها البعض من أولى الروايات، ومي زيادة (1886-1941) وكلثوم عودة (1892-1965) وأسمى طوبي (1905-1983) وتوفيق زياد (1929-1994) والكثير من الأدباء والشعراء، كما لها باع في الريادة، بمدارسها التعليمية مثل دار المعلمين الروسية «الموسكوب» التي درس فيها الكاتبان اللبنانيان، ميخائيل نعيمة (1889- 1988) ونسيب عريضة (1887-1946).
هذا القاص القروي الأصل ابن قرية الرينة، حمل في قصصه قرى وطنه، العابقة برائحة الأرض وأشجارها ونباتاتها ودوابها، كما صور هموم شعبه اليومية وقضاياه إبان فترة الحكم العسكري، من مصادرة الأرض ومجزرة كفر قاسم وإسقاطات التجنيد الإجباري. كما سلط الضوء على « الكيبوتس» المقام على أراضي القرى الفلسطينية. كذلك أبرز قضايا النساء المهمشات في مجتمعهن الذكوري، ورسم بريشة فنان بارع ثنائية القرية والمدينة، حيث استعلاء المجتمع المديني في فلسطين على القرويين، كما احتفى بتمرد المرأة، ونجاحها في الخروج من الغرفة المغلقة المطوقة.
أكرم أبو حنا الفنان، سكب رحيق حبره القصصي، الملون بالرسومات واللوحات الموحية، وهو مسكونٌ بروح المذهب الواقعي الاشتراكي في كتابات الواقعيين الروس، أمثال مكسيم غوركي وتولستوي وبوشكين، الرافضة امتهان الإنسان العامل، وامتهان المرأة الأم، من قبل الزوج المتسلط، فقد ازدهى في قصة «سنية» التي تحمل في معانيها خصلة الشرف، المكتوبة عام 1956، بثورة الفتاة القروية الواعية، وتحطيم الأصنام الاجتماعية، بخروج سنية مثل صبايا القرية للعمل في مدينة حيفا، من أجل المساهمة في إعالة الأسرة بعد وفاة والدها، وتوفير الكتب المدرسية لأخيها. رغم حرج الأم، وعجزها عن السماح لها بالعمل، خوفا من الجد، أيقونة المجتمع الذكوري، الذي خبا نوره وسكت أمام إرادتها، إلا أنه هذه المرة صمت إزاء حفيدته حائرا، وأخذ كتفيْها النحيلتيْن بين يديه الخشنتين، وحاول الكلام مرارا، لكنه لم يقل شيئا، فهو لا يستطيع العمل حتى يملك حق منعها.. ولا يستطيع أن يبارك ذهابها، وكأنه أعياه التفكير وأنهكته الحيرة، فدمعت عيناه في يسر..».
وتحتفي القصة بخاتمة مفرحة، ابتهاج سنية بنجاح أخيها «ولم يكد يتخلص من قبلاتها حتى مال ليهمس في أذنها، ما قاله له المعلمون مشجعين إياه على متابعة تحصيله في المدرسة الثانوية في الناصرة «. وقصة «قوت الأبناء» التي تحمل عنوان المجموعة، هي قصة فجائعية، نشرت في مجلة «الجديد» الحيفاوية عام 1959، تعكس الحياة البائسة التي عاشها الفلاحون، في القرى العربية، بعد قيام دولة إسرائيل، إبان الحكم العسكري، حيث سطوة أهل الكيبوتس عليهم. القصة تسرد دخول بقرة أم قاسم حقل الكيبوتس لترعى، فيحتجزها حارس الكيبوتس ويفرض على صاحبتها، دفع غرامة باهظة بقيمة عشرين ليرة، وأم قاسم أرملة قروية تعاني الفقر وشظف العيش، تبيع اللبن في المدينة، لتوفير القوت لأبنائها، بعد أن قتل زوجها من قبل اليهود، حين احتلوا قريتها عام 1948، «ولو كان أبو قاسم حيا لكفى أم قاسم مرارة هذه الحياة، لكن ما العمل وقد أصبح جسده ترابا منذ سنوات، فمنذ دخل اليهود القرية (لتحريرها) كان نصيبه بضع رصاصات مع نخبة من شباب القرية، اختارهم رجال الجيش وصفوهم على البيادر، وحصدوهم» والكاتب يسرد بأسلوب سميرة عزام، التفصيلي الشائق، الوجع الإنساني الذي تعيشه هذه المرأة المكافحة، التي أرغمتها الظروف على حمل طنجرة اللبن مع انبلاج كل فجر، والسير بها مسافات طويلة من القرية إلى المدينة، من أجل إطعام صغارها، ولجمع الخمس ليرات، المبلغ المتبقي توفيره لدفع غرامة الكيبوتس. «ولم تنس أم قاسم بعد الحوادث المماثلة التي قدمت للمحكمة وحكِم على أصحاب البقر فيها بدفع خمسين ليرة، أو الحجز على البقرة، كما حكم عليهم، في حالات أخرى بالسجن». لكن أم قاسم، حين تصل مدخل المدينة، يقوم موظف البلدية بفحص (كيلة) اللبن التي بحوزتها، ويأمرها بالرجوع بادعاء أن الكيلة غير صالحة، بعدها يقوم بانتزاعها منها، وتقع أم قاسم أرضا والدم ينزف من جبينها، رغم ذلك تقوم أم قاسم وتتابع سيرها بشموخ.
ما يميز هذه المجموعة القصصية، احتفاؤها بالمعذبين في الأرض، العمال والفلاحين والنساء في المجتمع الفلسطيني. فالمرأة في بعض قصص المجموعة مقموعة ومهزومة وعاجزة، فهي تعمل وحدها في الحقول تحت لهيب الحر، بينما زوجها الجلف، القامع، يستلقي متفيئا تحت الشجرة، ورغم سطوته عليها، فهي مازوشية تنشد رضاه، كما في قصة «سهيمة» فأبو خليل «يتأفف متضجرا من سرعة زحف الظل، ما يضطره إلى التحول من حين إلى حين، كلما ألحت حرارة الشمس.. كان الحصادون يعانون أشد ساعات النهار حرارة». هذه الثنائية بين الرجل السلبي الجامد النائم والمتسلط، والزوجة المقموعة جسدا وروحا، والديناميكية، والعاملة بشقاء في حصاد حقول القمح وشغل البيت، هي صرخة وإدانة للهيمنة الذكورية لخلخلة بنيانها وهدمه، هدفها تعرية المفاهيم والأيقونات الاجتماعية الذكورية الثابتة، التي أمرت بـ»طاعة» المرأة للرجل، كي تنال «الغفران»! وتبلغ السخرية المرة ـ الإيرونيا، عند الكاتب ذروتها، في تفكير أبو خليل بالزواج بالثالثة، بينما زوجته مغمى عليها في الحقل والمنجل في يدها. وتصحو هنيهة لتقبل يديه لنيل التوبة ثم تفارق الحياة.
هذه المجموعة القصصية «قوت الأبناء (1975) تتموضع ضمن الأدب التنويري المبتهج بالحياة، والراسم قوس قزح بين الغيوم. وهي بالرسومات التي تحملها بين دفتيها، كولاج من الكلمة والرسمة. والقصص مكتوبة بفنية ولغة راقية، عابقة بموضوعات اجتماعية جريئة، فيها تمرد على الموروث الاجتماعي، الذي ساد قبل النكبة وبعدها، كما ترسم صورة المجتمع الفلسطيني بحلوه ومره، وترصد صيرورته وتحولاته، وتستشرف نهضة المرأة فيه. المجموعة تحوي أربع عشرة قصة، منها أربع قصص ذات عناوين نِسْوِية: سهيمة، سنية، أم جابر، إيهٍ أيتها الأمهات. إنها قصصٌ تحكي الوجع الإنساني، وامتهان الإنسان الفلسطيني العادي، المكافح للبقاء واستلال لقمة العيش. وعتبة العنوان «قوت الأبناء» هي إكسير الحياة، ودالة على البقاء والديمومة.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية