من الأول

حجم الخط
0

لنفترض أننا في مخيم جنين وسط الطريق التي فلحتها الجرافات، وأصداء المذابح والبطولة التي تأتينا من غزة، والموت يحاصرنا، فماذا سنفعل؟
الفكرة التي استولت على روحي هي تلك الصرخة التي أطلقها يونس الأسدي بطل رواية «باب الشمس» حين وقف في قلب مخيم شاتيلا بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو وصرخ: «من الأول».
كان الناس في شاتيلا قد أغلقوا شبابيكهم ولا يريدون أن يروا الخارج، فعار الهزيمة حاصرهم وخيبة الأمل خنقتهم، ولكن يونس قال: «من الأول» وفتح الشبابيك وحمل بندقيته وقاد الفدائيين إلى مواجهة الاحتلال.
هذه الحكاية لخصت فلسطين في الماضي. فبعد حرب النكبة اعتقد الناس في كل مكان من العالم أن فلسطين قد انتهت، وفجأة عادت من أولها كأنها هي الأول.
فلسطين هي أولنا وتأويلنا وكتابنا وصوتنا الذي لم يَضِع في زحمة الأيام والمذابح والدم.
منذ أربعة أشهر وغزة تقصف وتدمر ويقتل أبناؤها وتُجوّع وتُعطّش، وجرحاها لا يجدون العناية في المشافي، وموتاها لا يجدون القبور في المقابر، ومع ذلك ورغم ذلك فغزة قاتلت وتقاتل وستقاتل.
أبناء الأرض يخرجون من باطن الأرض، الذين يستحقون الحياة يصنعون من موتهم حياة، ومن ألمهم احتمالات للغد، كأننا أمام حقيقة لا تصدق.
الأهم ليس المأزق الإسرائيلي في غزة رغم أهميته، فهو مأزق حقيقي ويكشف هشاشة المجتمع الاسرائيلي، وهي هشاشة على كل المستويات الأخلاقية والسياسية وحتى العسكرية. غير أن الموضوع هو استعادة العرب لوجودهم.
لقد غابت فلسطين طويلاً عن حياتنا العربية، وسرت أفكار غريبة تتحدث عن ضرورة تجاوز المسألة الفلسطينية لأنها تقود إلى لا مكان. ومنذ كامب ديفيد المصري والعرب ينحدرون إلى العبودية لإسرائيل، هذه العبودية وصلت إلى ذروتها في اتفاقات أبراهام، حيث تم تتبيع العرب لإسرائيل ونزع أرواحهم واستسلامهم.
فجأة جاءت غزة من حيث لم يتوقعها أحد، وبرهنت أن الشعب الفلسطيني قادر على أن يبدأ من الأول. مجموعات من شباب الفدائيين يقفزون من بين الأنقاض ويدمرون الآلات العسكرية الإسرائيلية ويصنعون الفرح وينشرون احتمالات الحلم ويموتون.
هذه المفارقة العجيبة التي تجمع الموت والفرح هي ميزة فلسطين التي سمحت لها على مدى خمسة وسبعين عاماً أن تبقى في أول الطريق إلى الطريق.
الأول الفلسطيني هو أول العرب. آن للعرب أن يستيقظوا على كرامتهم وشرفهم، وأن يقاوموا مع الفلسطينيين هذه الهجمة الوحشية التي تسعى لاستعبادهم.
العيب العربي يجب أن يتوقف فوراً، والعهر والرقص على الجثث يجب أن يمحى ويعود العرب إلى أولهم.
كيف نعود إلى أولنا؟
نعود حين نستعيد الإيمان بأننا شعوب تستحق الحياة، وبأن حكامنا المتسلطين علينا يجب أن ينتهي دورهم.
الدور الآن هو للفدائيين والمقاتلين والرجال الشجعان الذين لا يهابون الموت. انظروا إلى شباب غزة، يكفي أن تتابعوا على الشاشة الصغيرة كيف يقاومون وهم يلبسون ركام بيوتهم وأحيائهم كي تستعيد الأماكن إيقاعاتها وتقول إنها مغروسة في عمق الأرض وهي تشكل حكاية أرض تقدست بدماء الشهداء.
العرب يحتاجون اليوم إلى إعادة نظر جذرية في واقعهم على ضوء حرب غزة. هذه الحرب مؤهلة أن تُحدث زلزالاً أكبر من زلزال 1948 الذي أطاح بالنظام العربي برمته.
وهذا يعني أننا أمام نهاية تبشر ببداية جديدة. فالوعي الفلسطيني صار عاماً من جديد، والعرب استفاقوا على حقيقة فلسطين باعتبارها حقيقتهم الكبرى.
الأول العربي الذي ينتظرنا يبدأ باللغة، استعادة اللغة لمعناها وتحريرها من اللغو وإعادة تأهيلها لتكون مناسبة للتعبير عن البداية المنتظرة. العرب اليوم هم أمام تحدي لغتهم وتحدي وعيهم، وهذا ناجم في الأساس عن ما صنعته غزة لنا وما رسمته من آفاق بلا حدود لشعب قرر أن يتمسك بأوله، فصنع من أوله أولنا جميعاً.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية