معضلة رئاسة الحكومة في تونس

دون مقدّمات ودون مناسبة أصدرت رئاسة الحكومة التونسية مؤخرا بيانا غريب الأطوار تحت عنوان «للتذكير» ربما من باب أن الشعب يحتاج حقا لمن يذكّره بجملة من «الحقائق» كان عنها غافلا.
دعنا من الأخطاء اللغوية الفاحشة في بيان كان يفترض أن يُعدّ بعناية ولنذهب إلى المضمون: البيان جاء في شكل نقاط أرادها كلها مطمئنة من قبيل أن «المؤشرات الاقتصادية تحافظ على إيجابيتها بصفة مستمرة» و«الدينار متماسك» و«نسبة التداين في تراجع مستمر» وغير ذلك وصولا في النهاية إلى الجزم القاطع بأن «شركاء تونس منبهرون بقدرة الدولة التونسية على الصمود ماليا في ظل الظروف الجيوسياسية التي يعيشها العالم اليوم».
لم يكتف البيان بسرد صورة وردية لاقتصاد، لم تعد مصاعبه تخفى على أحد في الداخل والخارج، بل تناول كذلك المناخ السياسي فأطلق «قذيفة من العيار الثقيل» تمثلت في القول بكل ثقة واطمئنان إن «الحريات مضمونة في الدولة التونسية أكثر من أي وقت مضى» في وقت تتواصل فيه الاعتقالات للصحافيين ولأناس عاديين بسبب تدوينات أو آراء أدلوا بها، وفي وقت تقبع فيه ثلة من الشخصيات السياسية المعارضة المرموقة من مشارب مختلفة في السجن، دون محاكمة منذ أكثر من عام، فضلا عن حكم يقضيه راشد الغنوشي رئيس البرلمان المنحل رغم تجاوزه الثمانين.
أثار هذا البيان عاصفة من التعاليق الساخرة سواء لمضمونه المتغنّي بإنجازات لم ترها سوى رئاسة الحكومة، أو للأخطاء الفاحشة الواردة فيه، والتي لم تسلم منها حتى النسخة الفرنسية منه التي صدرت لاحقا، على أمل ألا تصدر نسخ أخرى بلغات مختلفة. هذا البيان جاء في الواقع ليزيد في ترسيخ صورة سلبية للغاية عن رئيس الحكومة أحمد الحشاني الذي عيّن صيف العام الماضي ليخلف نجلاء بودن التي ظلت في هذا المنصب لزهاء العامين.

انتفى أي احترام لمنصب رئيس الحكومة في تونس اليوم، كما انتفى أي تقدير للوزراء الذين يعيّنون ويعزلون دون أن تعرف على أي أساس ولماذا، وامتد ذلك للولاة (المحافظين) الذين كانت لهم مكانتهم واحترامهم في السابق

عرفت تونس طوال حكمي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي الذي امتد لخمسة عقود (1957-2011) العديد من رؤساء الحكومات، بصلاحيات محدودة لا محالة ولهذا كانوا يسمون «وزيرا أول» لكنهم كانوا على قدر واضح ومشهود له من الكفاءة والمكانة، وبعد ثورة 2011 وطوال عشرية الانتقال الديمقراطي (2011-2021) تابعنا مرور أكثر من رئيس حكومة سجلت على بعضهم مآخذ ونقائص غير قليلة، لكن مع استحواذ قيس سعيّد على كل دواليب الدولة صيف 2021 لم يعد لرؤساء الحكومات الذين اختارهم هو بمفرده، من النكرات تماما، وزن ولا قيمة.
بدا الحشاني، الذي لا ماضي سياسيا له ولا خبرة في الشأن العام، عند كل ظهور علني، في حال يرثى له من الارتباك والتشوش وقلة التوفيق لا تتناسب بالمرة مع منصب كهذا في الدولة لا يجوز أبدا أن يكون شاغله، مهما اختلفنا معه، في مثل هذا الوضع الرث للغاية.
تجلّى ذلك بادئ الأمر في أول ظهور علني للرجل في زيارة له لمدرسة بمناسبة بداية العام الدراسي حين تحدث أمام الكاميرات بصورة مفكّكة ومبعثرة بهت كل من شاهدها، ثم كانت له كلمة خلال زيارة رسمية إلى الجزائر عرفت الكثير من الهنّات رغم أنها مكتوبة، أما «ثالثة الأثافي» فكان مؤتمره الصحافي مع رئيس الحكومة الفرنسية حين ارتجل بلغة موليير فبدا غريبا شكلا ومضمونا أقلّه حين وصل به الأمر أن يتذمّر من برنامج تلفزيوني عن بلاده حتى قبل بثه في إحدى القنوات الفرنسية.
وها هي قلة التوفيق تصل الآن إلى بيان مكتوب، قد يكون اختيار «للتذكير» عنوانا له في سياق تذكير الرأي العام بأن الرجل موجود وفي منصب يسمى رئاسة الحكومة أكثر من أي شيء آخر، خاصة وأن الرئيس قيس سعيّد يعزل وزراء ويعيّنهم دون التشاور معه، بل ويؤدي هؤلاء الوزراء الجدد القسم أمام الرئيس دون حضوره هو شخصيا فيكتفي بالاجتماع بهم في اليوم الموالي للتعرّف عليهم!!
لقد انتفى للأسف أي احترام لمنصب رئيس الحكومة في تونس اليوم، كما انتفى أي تقدير للوزراء الذين يعيّنون ويعزلون دون أن تعرف على أي أساس ولماذا، وامتد ذلك للولاة (المحافظين) الذين كانت لهم مكانتهم واحترامهم في السابق، علما أن الكثير من الولايات (المحافظات) الهامة هي اليوم دون ولاة، في وقت تتراكم فيه المشاكل في كل مدينة خاصة بعد حل كل المجالس البلدية قبل عام.
هكذا يبدو حاليا هرم السلطة التنفيذية بأحجاره المختلفة فيما أعلى هذا الهرم، أي الرئيس قيس سعيّد، القادم هو الآخر من لا تجربة ولا ماض، منهمك في حملة انتخابية رئاسية سابقة لأوانها، بأموال الدولة، استعدادا لانتخابات لا أحد يدري موعدها بالضبط ولا المتقدّمين إليها.
لهذا كله، والكثير غيره، لا يمكن حين تستمع إلى الرئيس يتحدث دائما عن «أولئك الذين يريدون تفجير الدولة من الداخل» أن يذهب تفكيرك إلى من يكون قصدهم الرئيس بكلامه، عن حق أو باطل، بل إلى القائمين اليوم فعلا عن شؤون هذه الدولة، للأسف الشديد.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية