معرض «مقاماتٌ» لمصطفى أجماع.. بنية جمالية وبعد بصري

حجم الخط
0

ينصهر الفكر في علاقاته تأثيرا وتأثرا، فتمتزج الأفكار والألوان والأشكال، خالقة تصورا جماليا برؤى فلسفية. ولعل في هذا تتحرك المفاهيم والتراكمات المعرفية، بمنطق رهانه حزمة الأفكار، وأفق الانتظارات، مع الأسئلة الحارقة القلقة، في مدار البحث عن مدارج الترقي للجمال، فتحوله إلى محاولة للقبض على تصورات وآفاق، أو إلى مدونة إبداعية توثقه لغة وأسلوبا…
والفنان الخطاط / الحروفي؛ مصطفى أجماع في تجربته الأخيرة «مقامات» قد اتخذت لوحاته؛ الحروف ديدنا لها، فتارة تحاورك وهي صامتة، وتارة تكون أنت المتكلم وهي الصامتة، موحية لك بسؤال تجاه البحث عن المعنى، وكشف أسرار المبنى.. هي أعمال جمعت بين المتعة الجمالية، والإيقاع البصري، الذي يحاور ترنيمات الإيقاع بقدر، ولا يخدش الضوابط وتوابع صفائه، بل يضفي المتعة عليها رونقا…
لوحات «مقامات» تُنشئُ الحرف في فضاء اللوحة، فتجعله يكتسي أحجاما بلبوس وأشكال مختلفة، ومتنوعة، مادام لكل شكل فكرة، ولكل رمز وحجم دلالة. تجاورا أو توحدا يعطي للشكل قوة على سندات متنوعة ومنفتحة على فضاءات أرحب. ولا غرو أن نجدها قد انتصرت فيه لشكل الدائرة جماليا وبعدا، على باقي الأشكال الأخرى ضمن المنجز لهذا المعرض.

الحرف والدائرة تجاور البدايات

تولد الدائرة، في عالم الحرف، عند مصطفى أجماع، صغيرة، وهي فكرة ذات نزوع كوني، باعتبار النقطة هي الأصل والبذرة.. وللنقطة في عالم الحياة سرها، أليست هي بداية إنتاج ماء البحر، وخالقة عظمته. وفي علامات الترقيم، هي نهاية لمشروع أو منجز ما، يتوقف عندها فعل الكلام …
وقد علمتنا علوم الآلة في الدرس النحوي أن النقطة نهاية. أو حينا آخر نقطة للرجوع إلى السطر، سطر الاستئناف والاستمرارية لفعل الكلام. أما في سطر الحياة فهي المركز والنواة وقد تكون هي المادة..
ومن البديهي أن نجد صيرورة الحياة مليئة بنقط البدايات. والنهايات كثيرة.. مع الرجوع إلى السطر. كلما اقتضى الأمر. لكن لكل هذه النقط رموز ودلالات. فالنقطة الصغيرة هي البداية، وهي المركز. تحيط الدائرة بها ضابطة قياسها، والدائرة شكل قمر أو شمس، تساهم في الحركة والجمال. وللنقطة مع حرف الألف في أعمال أجماع إنجازات متعددة، فأحيانا يتربع الألف عرش هذه الدائرة، ليخترق دورانها أو جزء منها، وعندما يتكسر يتوقف الدوران لتعطي للمتلقي مساحة وضع سؤال البداية والنهايات، وعلاقتهما في التجاور والتساكن، أو التضاد والنفور، ضمن درس فلسفة الحياة.

الحرف من التجاور إلى التجاوز

توحي عملية تكسير الدائرة بمنع الاستمرار، أو هي عملية للتوقف والتأمل، فلكل واحد منا مساره الخاص ودائرته، التي يحوم حولها أو يطوقها، مهما اختلفت الأقدار وتنوعت السبل. أما التوقف أو الوقوف فهو أمر حتمي …
في اللوحة النموذج رقم 1
يساهم الألف في تكسير المتداول حضوريا، إذ يدشن الانفلات أو الهروب.. الهروب من الدائرة ومن القيد المحتفي بسياج حروفي، ومتجها نحو أفق أرحب برمزيته ودلالته، سالكا طريقا إلى هدف معين وخاص، محاولا التحليق والانطلاق، ومن خلال شكل الدائرة إشارات توحي بأن الخروج مسرعا للبحث عن أفق، متمسكا بجاذبية الأرض، التي منها تكون البداية وإليها العودة..
في اللوحة النموذج رقم 2
يستقر حرف العين مكررا (بخط الثلث) بارزا، إذ تتصدر اللوحة حروف متعالقة مستنسخة، كأنها توائم، وهناك حروف دقيقة متجاورة ومتشابكة، في ازدحام على شكل طبقات، كل طبقة تعلو سابقتها. وكأنها في صراع للتسابق من أجل الصعود والوصول للأعلى، وهي مرتبة لم يظفر بها إلا حرف العين. أو (العيون) فجاء بارزا داعيا للتأمل. مما أعطاه مكانة ومرتبة دون الحروف الأخرى الدقيقة.
ويعتبر حرف العين من الحروف، التي حظيت باهتمام اختياري عند أجماع، ولقيت عنده النصيب الأكبر في لوحاته، والمكانة الأولى. وقد يكون هذا هو أحد الحروف التي تسكن: عظمة، وعلوا، وعلما، وعينا، وعشقا، وعدلا، وعرشا، وعذبا، وعطشا، وعمقا.. وهي كلمات لها دلالاتها ورمزيتها وقوتها …
وفي المجاورة يتم اختيار حرف الألف بالألفة في لوحة: اللوحة النموذج رقم 3، الذي تحوم حوله الحروف أسرابا متعددة الأشكال والأحجام، الألف الزعيم والعظيم، الشاخص بتوهجاته المتعددة، والزعيم عند لغة الصوفية يعد شيخا، وحوله المريدون، متمردا على القاعدة المعتادة في الضبط الكتابي لفن الخط. أليست زعامة مبتورة..؟ ودعوة للقراءة في ما هو مغاير؟ وذلك بفعل التكسير الذي لحقه، وكأن واقع الحال يقول كلمته؛ فمهما علا القدر، أو ارتقت المراتب، فالكمال خاصية لا يمتاز بها أهل الأرض. ويستحيل الوصول للتمام… ومهما سما الارتفاع، ومهما تكاثر الحضور، فالنظر إلى الجزء الناقص واجب… فالحياة والدائرة التي يعيش فيها الإنسان معرضة في أي لحظة للرجة أو التكسير، وحياتك أيضا أيها الألف في اللوحة معرضة للانشطار.. أليس الألف صاحب الصولة، الذي تتجمهر حوله جوقة الدراويش. وكأن الأمر يحيلنا إلى اللغة الشاعرية في الإحالة للقصيدة المشهورة ذات المطلع: (لكل شيء إذا ما تم نقصان).
إن لوحات أجماع تضمر حسه الفني والمعرفي، وتكشف عشقه، وترفع الستار عن تزاوج مواهبه. كما تكشف لنا شاعريته وإلمامه بحقول معرفية مجاورة لجماليات الخط، ونظرته العميقة إلى الحياة من زوايا بصره المتعددة، زاوية: المربي والشاعر والأديب والفنان والإنسان.. إنه العاشق للبدايات، له في كل بداية صناعة وبصمة وإبداع جديد يصنع به نهاية لمنجز.. نهاية اللوحة، ونهاية القصيدة، ونهاية كل الحكايات، وهي نهايات تدفعه للدخول في بدايات أخرى، تخضع للتجديد والتطور بروح المتواضع، تواضعا يؤمن بالمحدودية والإيجابية، التي تدفعه إلى الحياة دائما باحثا عن الكمال…

مصطفى أجماع

إنه العاشق للحرف، الذي تؤثثه لوحاته، والحرف هو الباني للمعرفة ومدونها، وصانع الكلمة والجملة والعبارة.. الحرف الذي صاحبناه صغارا فأطر حياتنا، كبرنا معا، وصغناه جملة وعبارة، فأنضج نصوصا ولوحات وإبداعات. هذا الحرف جعله أجماع يرقص ويحلق طربا، ويمارس عبادته الصوفية.. يرقص دون أن يخرج عن إيقاعه الموسيقي، أو يخدش حياء الرقص.. الحرف بكل تلويناته وهواياته، مغربيا تجلى في المبسوط والثلث المغربيين، ومشرقيا: نسخا وثلثا مشرقيا، إما مقيدا ومقعدا منضبطا لقواعد الخط وعلومه أحيانا، أو حروفا حرة طليقة من قيود القواعد، فهو القادم من الخط، باحثا عن لغة الجمال والانسجام أحيانا، وأحيانا أخرى هو الحروفي، يبحث عن كينونة الحروف الموسيقية، ليعزف منها سيمفونيته الإيقاعية والتشكيلية، كي يبدع منها لوحة، يضفي عليها روحانية تدخلها في رقصتها الصوفية.

الحرف.. بدء وخاتمة

يلعب الحرف بطولة المشهد الإبداعي في لوحاته، إلا أنه أعطى الزعامة والريادة للحروف التالية: الألف والعين والجيم والهاء، التي برزت واضحة كبيرة في لوحاته، وألبسها ألوانا خاصة، ليضفي عليها لمسة الجمال، وهي علاقة تتعدد تفسيراتها لتتوحد في عنوان هو العشق. والاقتراب من هذه الحروف، له قواسم مشتركة مع مبدعها من خلال اسم (أجماع) وكأنها توحي بالاعتزاز باسمه العائلي، الذي يحمل كل معاني الوفاء للأصل، الذي منه استمد بعضا من روحه الإنسانية، وجزءا كبيرا من شخصيته.. الاسم الذي يسعى جاهدا أن يرسمه إبداعا وثقافة وعطاء وخلقا، لتحمله من بعده سلالاته..
فإذا كانت الحروف رسالات مشفرة لبعد تواصلي لا يدركه إلا أهله، وثقافات وانسجام وخضوع لقوانين اللوحة في انصهار، حسب ما تمليه ضوابط المبدع، فإن ابن عربي يعتبر «…الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكنف في طريقنا.. وعالم الحروف أفصح العالم لسانا، وأوضحه بيانا» ابن عربي.
فأجماع مبدع حقيقي يحترم صنعته في حروفه، فيضعها في مكانها، مؤشرا لقيمتها ومدلولها، مبدع يقدم أعماله على نار هادئة، مبتغيا أن تَسُرَّ عين المتلقي، محترمة أفق انتظاراته، ومساهما في نشر وعي جمالي بين موردي هذا الاتجاه التشكيلي.. إنها خطوة لجولة في معرض لوحات الفنان مصطفى أجماع، تحتاج لخطوات كثيرة ومتعددة، وذلك بهدف ترتيب الأوراق، أكثر فأكثر، للوقوف على المزيد مما تضمره هذه التجربة، التي يحتل الحرف فيها بألوانه، وهو قيد مساحات أثيره، وممتدة …..

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية