مصر: الإخوان وتطهير القضاء وسياسة خلط الأوراق

حجم الخط
0

مرة أخرى تجد جماعة الاخوان المسلمين نفسها وحيدة مع مناصريها في مواجهة باقي القوى السياسية، بشأن قضية من قضايا الساعة في مصر. لكن المدهش هذه المرة هو أن القضية التي نحن بصددها، وهي مسألة تطهير وإصلاح المؤسسة القضائية، لم يكن من المتصور أن تكون موضع خلاف أو سجال بين مختلف القوى السياسية، سواء في الحكم أو المعارضة، فإصلاح مؤسسة العدالة كان مطلبا جماعيا لكل القوى الوطنية والثورية، وكانت حناجر الثوار في الميادين تهتف بصوت واحد مطالبة بتطهير القضاء من الفساد، باعتباره مقدمة ضرورية لبناء الدولة الديمقراطية المنشودة بعد ثورة يناير.
من هنا فإن تحول هذا المطلب من مطالب الثورة ليكون موضعا للخلاف والسجال يطرح تساؤلات كثيرة حول المصير الذي آلت اليه العلاقة بين شركاء الثورة والميدان، ويفرض على الجميع التوقف طويلا لمراجعة وتقييم مواقفهم كلها لتحديد المسؤول عن اتساع فجوة الخلاف بين الحكم والمعارضة، لدرجة أصبحت معها أهداف الثورة ومطالبها مادة للمكايدة والتجاذب بين الطرفين.
اللافت أن رفض ومقاطعة القوى السياسية لدعوة الاخوان المسلمين لمظاهرات تطالب بتطهير القضاء لم تقتصر على القوى المدنية والليبرالية، فهذا ربما يكون متوقعا، لكن ذلك امتد ليشمل احزابا إسلامية، مثل الوطن والنور ومصر القوية وغيرها، التي تراوحت مواقفها ما بين التحذير من أن مثل هذه المظاهرات ستعمق حالة الاستقطاب السياسي القائم أو التشكيك في دوافع وأهداف هذه المظاهرات وأن وراءها أهدافا سياسية. ولم تفلح تأكيدات الاخوان على أن الهدف من المظاهرات هو التخلص من القضاة الفاسدين والقصاص من قتلة الثوار، في تبديد شكوك وهواجس المعارضين الذين لم يروا فيها سوى خطوة على طريق التمكين للجماعة وأنها ‘حق يراد به باطل’، كما أنها تأتي في إطار مخطط ‘أخونة’ مؤسسات الدولة. ولعل ما دعم شكوك المعارضة في هذا الصدد هو توقيت الدعوة لتطهير القضاء إذ أنها جاءت بعد أيام قلائل من تصريحات منسوبة لمرشد الاخوان السابق محمد مهدي عاكف، تحدث فيها عن نية الاخوان إصدار تشريع يهدف للتخلص من أكثر من ثلاثة الاف قاض، كما أنها جاءت كأنها بهدف استثمار غضب قطاعات واسعة من الشارع المصري، مما انتهت اليه محاكمات رموز النظام السابق وعلى رأسهم مبارك، ولمنح السلطة غطاء سياسيا لتمرير تعديلات على قانون السلطة القضائية في مجلس الشورى يتضمن خفض سن المعاش للقضاة، ما يعني التخلص من الالاف من شيوخ القضاة.
لكن هل يعني هذا الموقف المعارض لدعوات الاخوان لتطهير القضاء أن السلطة القضائية بخير في مصر، وأن جسد القضاء سليم ولم يطله داء الفساد؟ الاجابة هي النفي بالتأكيد، فمؤسسة العدالة مثلها مثل باقي مؤسسات الدولة المصرية في عهد مبارك طالها فيروس الفساد، ولا شك أنها بحاجة للإصلاح والتطهير، وقبل ذلك وبعده للاستقلالية والتحرر من اي ضغوط أو مؤثرات بما يضمن تحقيق العدالة للمصريين في الحكم والمعارضة، وبما يحقق سيادة دولة القانون باعتبار أن العدل هو أساس الملك. إن الدلائل والمؤشرات كثيرة على الخلل والفساد الذي أصاب مؤسسة القضاء من خلال الغواية والاغراءات على مدى سنوات طويلة من حكم مبارك، أو من خلال تعيين العشرات من ضباط الشرطة في سلك القضاء وغير ذلك من الاسباب الكثير التي لا يتسع المقام لسردها. وبالتالي فإن إصلاح هذه المؤسسة لا ينبغي أن يكون موضعا للخلاف، كما أنه لا ينبغي أن يكون موضوعا للاستغلال السياسي. ومن هنا فإنه إذا كان يؤخذ على بعض معارضي الاخوان عدم الموضوعية أو الانصاف حين يقفون في وجه أي دعوة تطالب بإصلاح مرفق القضاء في مصر من منطلق المكايدة للاخوان ورفض أي خطوة يتخذونها حتى لو كانت تصب في تحقيق أهداف الثورة، فإن في موقف الاخوان ومناصريهم من هذه القضية خلطا واضحا للاوراق، وفيه من الاستثمار السياسي والرغبة في تصفية الحسابات اكثر مما فيه رغبة صادقة في إصلاح هذه المؤسسة. ويمكن رصد هذا الامر بالنظر للعوامل والأسباب التالية:
أولا: ان تحميل القضاء المسؤولية عما آلت اليه محاكمات مبارك ورموزه أو الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين، هو أمر يتنافى وقواعد الإنصاف، فمسؤولية ما جرى لا يتحملها القاضي الذي حكم بما توفر لديه من ادلة وقرائن وفرتها له جهات اخرى، مثل النيابة العامة وأجهزة الشرطة، فالقاضي يحكم بالعدل وليس بالحق، وحتى الاتهامات الموجهة لبعض القضاة باصدار أحكام سياسية انتقاما من الأخوان، تبقى رغم إمكانية صحتها، بلا دليل ملموس. ومن هنا فان المشكلة لا تكمن في القضاة وإنما في أن محاكمة مبارك ونظامه تتم وفق قوانين وضعها هذا النظام، ومن ثم فان الحل يكون بسن تشريعات وقوانين جديدة وليس باستهداف القضاة والطعن في نزاهتهم، فأخطر ما يمكن ان يهدد وجود أي دولة هو أن تكون مؤسسة العدالة فيها موضع اتهام وشك.
ثانيا: إن محاولة تحميل القضاء مسؤولية ما جرى فيه قفز واضح على الحقائق وتعمد إغفال حقيقة أساسية، هي ان الخطأ الذي ارتكبته الثورة منذ البداية أنها حاكمت مبارك ونظامه أمام القضاء العادي وليس أمام محكمة ثورة او محكمة خاصة، وحاكمته بتهم جنائية مضحكة وليس بتهم سياسية أصدر الشعب فيها حكمه النهائي والبات، حين خرج للشوارع بالملايين لاسقاطه وقد فعل، ومن هنا فان تعمد إسقاط هذه المسألة يبدو مقصودا للايحاء بان المشكلة في القضاء وليس في الخطأ الذي ارتكبته الثورة حين لم يحاكم مبارك سياسيا على كل الجرائم التي ارتكبها في حق مصر والمصريين.
ثالثا: ليس أدل على الاستغلال السياسي للقضية من أن يدعو الحزب الحاكم أنصاره للتظاهر للمطالبة بتطهير القضاء، والسؤال هنا ممن يطلبون إذا كانوا هم في السلطة وبيدهم القرار؟ فإذا كان منطقيا أن تدعو المعارضة أنصارها للنزول للشوارع للتأكيد على مطلب ما باعتبار أن هذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة امامها لإيصال صوتها والضغط على النظام الحاكم للاستجابة لها، فأي منطق في أن يدعو الحزب الحاكم أنصاره للنزول للشوارع للمطالبة بأمر ما إذا كان بيد الحزب تنفيذه؟
رابعا: لم تكن هناك جدية واضحة منذ البداية لدى من تولوا مقاليد السلطة بعد الثورة سواء المجلس العسكري أو الإخوان، في اتخاذ خطوت جادة لإصلاح القضاء وتأكيد استقلالتيه ولو أنهم كانوا كذلك لقاموا بسن التشريعات والقوانين التي تحقق هذا الهدف من خلال إصدار قانون السلطة القضائية الجديد، ولما اصر الرئيس محمد مرسي وجماعته على نفس نهج نظام مبارك في تعيين النائب العام من دون ان يحاول اعادة تعديل الطريقة التي يتم اختياره بها، ليكون من خلال المجلس الأعلى للقضاء بما يضمن حيدة واستقلالية هذا المنصب وحصانته ضد أي ضغوط من قبل السلطة التنفيذية، ولكنه لم يفعل، فكما كان عبد المجيد محمود النائب العام السابق ينظر اليه باعتباره النائب الخاص لحسني مبارك، فإن الامر نفسه ينطبق على النائب العام الحالي طلعت باعتباره نائبا عاما للرئيس مرسي.
خامسا: لقد بح صوت القوى السياسية والثورية منذ الأيام الاولى للثورة وهي تطالب بإصدار قانون للعدالة الانتقالية في مصر، بما يضمن محاكمات خاصة لكل من خربوا الوطن ونهبوا ثرواته وافسدوا الحياة السياسية، وبما يؤدي لإصلاح كل مؤسسات العدالة والقانون في مصر من قضاء وأجهزة أمنية وشرطية وغيرها ولكن كل هذه المطالبات والمقترحات والأفكار التي قدمتها القوى الثورية في هذا الصدد ذهبت أدراج الرياح ولم تجد اذنا صاغية من المجلس العسكري أو الاخوان من بعده.
إن هذا السجال بشأن مؤسسة القضاء يستدعي التأكيد على مسألتين مهمتين: الاولى هي الحاجة الملحة والعاجلة من قبل شركاء الثورة في الحكم والمعارضة لمراجعة مواقفهم للاتفاق على كلمة سواء حيال استحقاقات المرحلة قبل ضياع ما بقي من الثورة، والثانية هي أن إصلاح مؤسسة القضاء مسألة في غاية الأهمية لاستكمال أهداف هذه الثورة ولكنها بالقدر نفسه مسألة بالغة الحساسية تتطلب حرصا حتى لا ينتهي الأمر إلى هدم وإسقاط دولة القانون بدلا من إصلاحها، كما أنها تتطلب توافقا وطنيا وشعبيا حتى نضمن أن يكون القضاء لكل المصريين أيا كانت انتماءاتهم أو مواقفهم.

‘ كاتب وصحافي مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية