مسرحية «وشي في وشك»: كوميديا سوداء تُعرِّي المجتمع

يفجر الكاتب المسرحي وليد علاء الدين في مسرحيته «وشي في وشك» الصادرة حديثا عن دار بتانة في القاهرة، قضايا اجتماعية معاصرة طفت على السطح في الآونة الأخيرة، يمزج من خلالها الواقعي بالافتراضي وصولا لشكل جديد للمجتمع، خصوصا بعد سطوة منصات التواصل الاجتماعي التي باتت عنصرا مشاركا في أزمات المجتمع واشتعال معاركه الافتراضية، التي لامست الواقع وجرحت نسيجه. إنها كوميديا سوداء تعرِّي المجتمع وتفضح نزعاته، وتلقي الضوء على المواجهات والانفلات الأخلاقي فيه، إثر الثورة وغزو المنصات الافتراضية، كما تعالج ماهية العلاقات وارتباطها بالذاكرة والوعي وتمزجهما بمصير الإنسان في عصر مرتبك. تتكئ مسرحية «وشي في وشك» على الواقع ومرآته الافتراضية، وهل هي انعكاس له؟ أو أن الواقع هو مرآة الافتراضي؟ الواقع بوصفه المكون الرئيسي للحياة بأحداثها وأزمنتها وأيديولوجياتها وشخصياتها. بكتابته لتلك المسرحية واختيار موضوعها فإنه يعيد تشكيلها في قالب مسرحي يتسق مع الواقع ويتعانق معه.

كتب وليد علاء الدين مسرحيته «وشي في وشك» في خمسة مشاهد يمثل كل مشهد لعبة ما؛ اللعبة الأولى: الاستغماية، اللعبة الثانية: ألف ليلة ولا الف نيلة، اللعبة الثالثة: جوز ولا فرد، اللعبة الرابعة: هبوط مش اضطراري، اللعبة الخامسة: وشي ف وشك؛ يبحث فيها عن صورة الآخر ووجوهه المتعددة، ويطرح سؤالا حيويا؛ وهو هل صارت منصة فيسبوك ساحة لارتداء الأقنعة، أو تغيير الوجوه وإيهام الآخر لتصديقها، كما تحاول من خلاله إرساء دعائم فكر أو توجه معين، تمثل تلك الأقنعة الجانب الآخر الذي يحاول شخص ما أن يراه الآخرون به سواء بقصد، أو إنه يمثل الجانب الإيحائي المؤسس للواقعية الافتراضية إن جاز التعبير.

يبدأ علاء الدين مسرحيته بطفلين (طفل وطفلة) يمثلان البراءة في أعلى تجلياتها؛ يلعبان لعبة الاختباء والبحث (الاستغماية) في عالمهما الصغير، لكن حينما يضع الطفل قناعا، أثناء اللعبة، لا تعرفه الطفلة وينتابها الحزن وحينما يتبادلان المواقع لا تعرف كيف تختبئ، وحينما يضع قناع البلياتشو تصرخ الطفلة، تمثل الطفلة الصفحة البيضاء أو الوضوح، إذ لم تفهم مغزى الاختباء أو جدواه، ثم يتطرقان إلى مسألة الخوف وأن كل شخص يخاف من شيء ما، يمثل ذلك المشهد المدخل الذي استخدمه المؤلف لبلوغ هدفه، وهو أن الطفلة لا تخاف من كل الأشياء مثل الظلام والعفاريت والثعابين، إلخ، لكنها تخاف من الذي يضع قناعا وهو الاستعارة الدرامية التي وضعها المؤلف في مدخل المسرحية. تتمدد الفكرة فيناقشان المرأة وزينتها التي تبدو وكأنها قناع تخفي من خلاله حقيقتها.

الطفل: في يوم لقيت حواجبها مش حواجبها وعينيها مش عينيها ووشها مش وشها، ماما قالت لي: أصلها كبرت، والبنات بيحبوا يبقوا حلوين، (يصمت ثم يتساءل) بس هي حلوه، ليه بتستخبى؟

يمثل التساؤل الذي طرحه الطفل استنكارا لمسألة الاختباء أو تجميل الوجوه بوصفها نوعا من الاختباء، يبحث الطفلان عن قيمة الوجه المكشوف وما يمثله من صدق وقيمة إنسانية فطرية، كما يستنكران كل ما هو غير حقيقي وما يسببه لهما من ارتباك وخوف، وأن الحزن والفرح يظهران على الوجه الحقيقي فيمكن التعامل معه بصورة واضحة. يدرك الطفل بشكل مبكر أن الطفلة سوف تبحث عن الاختباء حينما تكبر، ورغم وعيه المحدود لا يعرف الطفلة حينما ترتدي النقاب. وفي النهاية تعرض الطفلة على الطفل لعبة وشي في وشك لتمزيق كل الوجوه المزيفة والأقنعة، ليكون الجميع في مواجهة بعضهم بعضا، ثم يحاول الطفل سرد حكاية لا يعرف إن كانت حلما أم حقيقة. يمثل المشهد الأول اختزالا للحبكة المسرحية كما يمثل نقطة انطلاق للحدث المسرحي، وتأتي بقية المشاهد وكأنها تدور في خيال الطفل الذي يمثل القيمة الحقيقية للمجتمع وللفطرة الإنسانية السليمة.

ينمو الحدث المسرحي في المشهد الثاني وتتطور الحبكة، إذ يحشد المؤلف شخصيات كثيرة تمثل كل أصناف البشر في ملابس تنكرية؛ رؤوس حيوانات وأبطال أساطير وشخصيات تاريخية أو معاصره، ويقوم المزدوج بدور الراوي والمشارك في الأحداث، ونجد الحديث يدور حول القماش الذي كان أداة لإظهار الجمال في حكايات ألف ليلة وليلة، ثم سيتحول في ما بعد إلى قناع لإخفاء الوجه، يتحول المشهد إلى مزج ما بين الحكاية والواقع للوصول إلى غاية واحدة وهي أن البرقع رغم إخفائه للملامح إلا أنه لم يكن وسيلة للاختفاء، أو تغيير الوجوه، بل كان ملمحا من ملامح الجمال في الماضي.

المتعدد: هو الوش اللي بتعامل بيه أحبابك نفس الوش اللي بتعامل بيه أعداءك؟

تتمدد الفكرة في المشهد الثالث فينمو الحدث المسرحي، إذ يظهر متعدد الوجوه والمهرجان وذوو أقنعة الحيوانات، الذين يمثلون نماذج بشرية من مختلف العصور لمناقشة فلسفة تعدد الوجوه، كما تتعرض لمسألة تغير الملامح بسبب الانفعالات التي تتسبب فيها، لكنها لا تندرج تحت مسمى تعدد الوجوه، والأزمة الحقيقية تتجلى حينما يفسر المتعدد تغير الوجوه بشكل سافر. كما تناقش الأصوات تلك المسألة من عدة زوايا للوصول إلى ضرورة تغيير الوجوه طبقا لطبيعة كل شخصية.

المتعدد: المحتال فهو اللي يقابلك بنفس الوش في كل مرة، بس بمشاعر مختلفة، المحتال هو اللي يقابلك بوش بيقولك: مبسوط بيك، بس مشاعره بتقول لك: ربنا ياخدك، المحتال هو اللي وشه بيعطف وإيده جاهزة تنهش، اللي وشه أب أو أخ بيطمنك على عوراتك وقلبه شهوة بتنتظر انكشافها.

يقول الفيلسوف والمفكر الفرنسي ميشيل فوكو: إن حقيقة الكتابة أنها قلب منهجي لعلاقة القوة بين الكاتب والمتلقي، إلى مجرد كلمات مكتوبة وفي هذا الشكل تصبح الخطابات الأدبية منتجة للأيديولوجيا. إن البناء الدرامي في مسرحية «وشي في وشك» يأتي متسقا مع الشكل أو القالب الدرامي الذي اختاره المؤلف لكي يخاطب المتلقي الذي يستطيع أن يتخيل الواقع الذي جاء ممزوجا بواقع افتراضي ليعيد تشكيل الواقع من جديد من خلال شخصيات تتقن الانخراط في هدم ثوابت وتبني أسسا واقعية أكثر هشاشه. يقول الدكتور عبد العزيز حموده في كتابه البناء الدرامي: إن عناصر البناء الدرامي يمكن تحديدها عن طريق الاستعراض التاريخي السريع لنشأة الأدب المسرحي وتطوره إلى أن يصل إلى ما وصل إليه على يد الأدباء الإغريق مثل إسخيلوس ويوروبيدس وسوفوكليس. فالدراما تشبه بيتا كاملا، وصلنا نحن متكاملا، بعد أن ظلت الأجيال المتعاقبة تضيف لبنة فوق لبنة. تمثل مسرحية «وشي في وشك» بناء كاملا للمجتمع يختزل قضاياه ويفككها لمتلقٍ واعٍ يتفاعل معها.

يصل الصراع الدرامي في مسرحية «وشي في وشك» إلى الذروة عند اللعبة الرابعة: هبوط مش اضطراري، فتتسع الفكرة ويتطور الحدث المسرحي وتزداد الشخصيات عمقا، فلا يزال ما يحدث في الفضاء المسرحي يمثل حلم الطفل، ويحدث الامتزاج التام بين الواقعي والافتراضي من خلال هاتف نقال تحمله إحدى الشخصيات وتتفاعل مع الآخرين، ويحدث الصدام إذ يتحول النقاش إلى شجار إلكتروني يسب كل منهم الآخر بعد أن يوجه اتهامات، سواء بالعلمانية أو السفور أو التطرف الديني، يحدث انفلات أخلاقي تتحطم على إثره قيم احترام الآخر، يمثل هذا المشهد صورة صارخة لما يحدث في المجتمع، بعد ظهور منصات التواصل الاجتماعي التي من المفترض أنها تقِّرب الناس، إلا أنها خلقت الأزمات بينهم. يناقش المشهد أيضا مسألة الحرية والوصاية الدينية والاجتماعية على الآخرين.

الطفلة: مش باحب الوشوش المستخبية

س: أجعل منك أمثولة للخلل الذهني والتشوش اللي ضارب مجتمعنا.

اذا كان أرسطو قد اتكأ في كتابه فن الشعر على معنى التطهير catharsis باعتباره محورا لنظريته عن المسرح الكلاسيكي، الذي تبناه ستانسلافسكي في منهجه «الاندماج والمعايشة» الواقعي، فإن علاء الدين يضع شخصياته في اندماج تام في فضاء مسرحي وثيق الصلة بواقعها، فضلا عن نزوعها للتطهر في عمق الواقعية المفروضة عليهم فضلا عن الواقع الافتراضي وأشواكه التي تنغرس في نسيج المجتمع.

يستخدم وليد علاء الدين تكنيكا موسعا ومكثف الدلالة قائما على الواقع من خلال ربط الواقع بالافتراضي، يسعى من خلاله إلى بلورة التأصيل والتجويد في المسرح، فيتصف بأنه ذو عناصر جمالية وتوجه أيديولوجي، يعالج الموضوعات الاجتماعية التي تشتبك مع الواقع، فيلقي الضوء على قضاياه، يدرك أن المسرح نشاط جماعي متكامل يتحقق من خلال اتحاد مجموعة من العناصر، فيمثل النص اللغوي الحواري (اللغة العامية) وهو المنطوق في مسرحيته، العامل الأساسي في البناء المسرحي والذي يتوهج من خلاله الحدث المسرحي فينمو ويتصاعد. يقوم خطابه المسرحي بدور الفاعل والمؤثر الثقافي في المتلقي الذي يعيش الواقع وينفعل معه ويؤثر فيه ويتأثر به بوصفه الوعاء غير المكتمل الذي يضع فيه فكره.

حينما نطالع مسرحية «وشي في وشك» نتعرف على عتبة النص الأولى وهي الغلاف، بصفته العتبة البصرية، بمثابة بطاقة دالة على هواجسه وتساؤلاته الخاصة بالمضمون، وهو قضية الواقع المتدهور، إنه يكثف المغزى الدلالي والجمالي ويحمل إرهاصا ديناميا، تكتمل فيه عناصر التشكيل الفني، إذ يمتزج فيه اللون الأبيض مع الأصفر والأحمر الدموي، ودرجات كل منهما في نسيج متآلف لوجهين يقفان في مواجهة بعضهما بعضا؛ وجه امرأة ووجه رجل متقاربين لدرجة التلاصق للدلالة على المواجهة، بوصفها المضمون الذي يهدف إليه المؤلف، وجاء العنوان ليكون المنطوق الذي يتفوه به أحد الوجهين. يتحول الغلاف إلى لوحة تشكيلية تحمل في داخلها إسقاطات ومعاني وفكرا خصبا يود الكاتب المسرحي أن يضمنه في ثنايا النص. يتحد العنوان وهو العتبة الثانية، بصفته العتبة اللغوية، الذي يكون من حيث الجانب التركيبي «وشي» مبتدأ و»في» حرف جر و»وشك» اسم مجرور.

يقول بيتر بروك في كتابه «النقطة المتحولة، أربعون عاما في استكشاف المسرح»: إن المسرح مثل الحياة يقوم على صراع لا يهدأ بين الانطباعات والأحكام، تعايش مؤلم بين الوهم وانتفاء الوهم، لا يمكن فصل أحد جانبيه عن الآخر. يفتح العنوان «وشي في وشك» بوابة الوهم ليناقش الحاضر ويسقط عليه، هو شديد الالتحام بالنص نظرا لما يعطيه من معرفة وفهم مدلولات النص، ونكتشف أن ثمة علاقة وثيقة بين العنوان والغلاف، من خلال الألوان المتحدة بامتزاجها تؤكد أن المتن يحمل الكثير من أحداث أعلنت عنه تلك العلاقة بشكل مبكر، بالإضافة إلى أن هناك نوعا من الغموض يكتنف تلك العلاقة الدينامية وهو ما يحفز المتلقي على الولوج إلى المتن لسبر أغوارها، بالإضافة إلى أن تلك العلاقة تؤثر بشكل مباشر في ذهنية المتلقي وتجذبه وتستهويه لمتابعة عملية القراءة، وتجعله في تفاعل دائم مع النص، كما توجهه نحو عوالم درامية تنتظر أن يعاين أسرارها، وهناك مفارقة واقعية تُحمِّل العنوان بمدلولات تبدو في ذهن المتلقي صعبة التحقيق نظرا لعامية العنوان، دون أن ينعكس ذلك على الغلاف، وربما كان الغلاف يخفي أكثر مما يظهر بسبب رمزيته التي تضع المتلقي في رهان صعب وهو كشف أسرار النص بمجرد أن يدخل عوالمه المتشعبة.

الطفل: (يفتح عينيه فيجد سعاد) برافو عليكي، كنت فاكرك هتسمعي كلامهم وتستخبي، (يحضتنها) أنا متشكر قوي إنك علمتيني لعبة وشي في وشك.

تنتهي مسرحية «وشي في وشك» لوليد علاء الدين بخروج الطفل والطفلة راكضين فرارا بعد تهديد الشيخ وائل للجميع، تدق المسرحية ناقوس الخطر على ما يحدث في المجتمع في الآونة الأخيرة، الذي باتت شخصياته في مواجهة بعضهم بعضا، ظهرت الوجوه على حقيقتها، لكن اكتشف كل منهم صورة قميئة للآخر. تخلت الإنسانية عن إنسانيتها ونضح إناء المجتمع بما فيه، أخرجت المواجهة أقذر ما في النفس الإنسانية على السطح، ورغم خطاب المسرحية بضرورة المواجهة بالوجه نفسه إلا أن المواجهة جاءت بشكل فادح تسببت في تهدم القيم وخلخلة الثوابت، لكنها لم تنزع فتيل الأزمة الاجتماعية التي ما تزال قائمة حتى اليوم، لكن ربما تكون المواجهة سببا في سقوط الأقنعة عن الوجوه، لتتحقق فكرة ضرورة وجود وجه واحد يُظهر الحزن والفرح ولا يضمر ما يمكن أن يعكر صفو المجتمع.

روائي ومترجم مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    قطرات ادا سمحثم لنا وكدالك كاتب السطور المحترم شكرا أضعها في سماء هد ا الفن العظيم الدي قالت عنه لاقلام المتميزة عن جدارة الشيء الكثير ولازالت وستظل مادام هد ا العالم السفلي المليئ باالقضايا المتنوعة يصعب أحصاءها دات طابع اجتماعي بعضها ناجم عن الخلاف ولآخر عن بعض الحماقات فاالمسرح ورث ثروة كبيرة من لاساليب الفنية زيادة على اللغات التي تعلمها واللهجات مكنته من معالجة كثير من لامور ومع هد ا لايستغني عن الرمز بمعنى يشير فقط ولا يوضح هد ا من حكمه .

إشترك في قائمتنا البريدية