مذابح غزة: الهزيمة والقابلية للنسيان

«قتلناكَ.. يا آخر الأنبياءْ
قتلناكَ.
فتاريخنا كله محنة..
وأيامنا كلها كربلاء»
(نزار قباني)
كثيرون منا لا بد وأنهم مروا على أبيات الشعر هذه التي رثى فيها نزار قباني جمال عبد الناصر، ولعلها علقت في ذهن البعض منهم، أياً كانت أسباب ذلك، أعن تقديسٍ أو تعاطفٍ مع الرجل، أو عن انزعاجٍ من هذا التقديس نفسه؛ الأكيد في نظري أنها مثالٌ على التناقض الصارخ في ذهن وروح الرجل الذي كتب «هوامش على دفتر النكسة» قبل ذلك، وكتب أيضاً «ليس جديداً خوفنا، فالخوف كان دائماً صديقنا.. من يوم كنا نطفةً.. في داخل الأرحام» إلى أن وصل في القصيدة نفسها «نموت.. مقهورين، منبوذين، ملعونين.. منسيين كالكلاب».
حضرتني هذه الأبيات الأخيرة «منسيين كالكلاب» بشدة في الآونة الأخيرة بينما تحاصر وعيي ووجداني مشاهد القتلى والتهجير والجوع، ولعل الشاعر الكبير، المتناقض مع نفسه (لعل نزاراً كان وفياً للتناقض الذي يسكننا جميعاً كناطقين بالضاد، بدرجاتٍ متفاوتة بالطبع) كان أقرب للصدق، مع نفسه أولاً، ومن الحقيقة في وصفه لهزيمتنا وعلتها منه حين استجاب لعواطفه الحزينة على فراق رجلٍ لن أقول أنه لم يكن بعيداً فحسب عن هزيمتنا، بل كان سبباً مباشراً فيها وفي تخليق ذلك النظام وطبعاته اللاحقة، التي وإن تكن نتجت من ضعفنا، فقد عمقت منها ومن هزيمتنا.
أما شيخنا نجيب محفوظ، الذي كان أقل انسياقاً للعواطف، فقد كان صائباً تماماً في مقولته الشهيرة «ولكن آفة حارتنا النسيان».
ففي هذا الشهر، حيث نجوع طوعاً في عبادةٍ ورياضة نفسية، فنشعر، من ضمن ما نشعر به، بقيمة النعم التي نتعامل معها في الأوقات العادية غير الرمضانية كمسلمات ومعطيات مثل الماء والطعام (أياً كان نوعه) فلا مهرب من الشعور بالجوع والعطش، ومن ثم الشعور بشيءٍ، ضئيلٍ بما لا يقارن، مما يشعر به أهلونا المحاصرون الذين تهددهم الإبادة دون عونٍ من الأنظمة المجاورة، التي قررت أن تغلق حدودها وآذانها وتنظر في الاتجاه الآخر، وكأن الأمر لا يعنيها مكتفيةً بمجرد التصريحات والألعاب الكلامية للاستهلاك المحلي وذراً للرماد في العيون. كثيرون منا تنبهوا وحذروا من أن نألف مشاهد القتل والدمار وأعداد الشهداء، من أن نعتاد طوابير الجوعى الذين يحتشدون ويتدافعون مادين أيديهم بالأوعية من أجل حفنة دقيق، لأنهم يعرفون الطبع البشري، والأهم لأنهم يفهمون، ربما دون أن يصرحوا أو حتى يدركوا، يعرفون شعوبنا. ولم يطل الوقت حتى أظلنا رمضان وصرنا نرى الناس أكثر كلاماً وتحليلاً للمسلسلات الرمضانية منهم لما يحدث في غزة، وصاروا أقل حراكاً، في الوقت نفسه الذي يزداد الحراك في الغرب من المجموعات المناصرة للقضية الفلسطينية، الرافضة للمذبحة، وتزداد التعليقات والتصريحات الرافضة والفاضحة والمدينة للإبادة الجماعة، التي ترتكبها إسرائيل على لسان المسؤولين الغربيين والشخصيات العامة.. أمرٌ مخجلٌ ومهين.

نحن شركاء ومتواطئون في جريمة الصمت مع الأنظمة التي قررت تصفية القضية الفلسطينية، قضيتنا واستسلامنا لموروث ثقافة الهزيمة والإذعان

لنا أن نسأل: لماذا لم تتوقف المسلسلات والترفيه، في رمضان حداداً وتضامناً مع أهلنا في غزة؟ أهي من مستلزمات العبادة في الشهر الفضيل؟ هي ليست عملاً أو تعليماً.. هي للترويح والتسرية، هل هذا وقتها؟ ألا تخصنا هذه المذبحة التي تحدث على حدودنا؟ أليسوا أهلنا ونحن منهم؟ إن ما يحدث هو نفيٌ ضمنيٌ لذلك، دون جدال، والحقيقة أن ذلك ليس بالجديد، فمذ ذهب السادات لإسرائيل كرّس رسمياً الفرقة والبتر، فصار الفلسطينيون (والسوريون والعراقيون إلخ) آخر لا يعنينا، وكأننا نتحدث عن الشعب الكوري أو الشعب السويدي الشقيق. من فداحة المصاب وألمه وضخامة البذاءة ومرارة الواقع، رحت أفكر في سبب ما نحن فيه، ولعل «أجتر» كلمةٌ أدق، فذلك الواقع المهزوم لا يفارقني، وتذكرت، كأبيات الشعر تماماً، مقولة مالك بن نبي عن الاستبداد الذي يضعف مناعة الشعوب فيجعلها قابلةً للاستعمار. في حالنا الآن أرى أن ما نحن فيه سببه الهزيمة.. الهزيمة العميقة.. هي سبب آفة النسيان.. لعلنا ننسى، أو نتناسى، لنهرب من واقع الهزيمة. لقد هزمتنا هذه الأنظمة؛ لم تهزم ثوراتنا فحسب، بل هزمت وسحقت أرواحنا وغرست هذه الهزيمة في أرواحنا وذواتنا فسممتها تماماً.. لهذا نحن معطوبون.. بدرجاتٍ متفاوتة بالطبع.. هزمتنا وهزمنا الفقر الذي غمسونا فيه والرأسمالية التي ارتهنونا وبلداننا لها.. أقرب مثال هو السيسي، الذي أغرق البلد العربي الأكبر، في رمال الديون المتحركة مورطاً إياه لعقودٍ وحده الله يعلم طولها، راهناً إرادته تماماً لرأس المال.. لقد هزمنا ذلك الديكتاتور البليد وقمعنا وأفلسنا وشحذنا ورهن إرادتنا تماماً فسلبنا، وسلب نفسه، أي هامش للحركة من أجل بقائه ومن أجل أكبر برج وأكبر «نجفة»…في الحقيقة أكبر خازوق.. الآن، بعد قرابة الستة شهور، ومع فقدان إسرائيل القبول على مستوى الوعي الشعبي العالمي، كما قال توماس فريدمان من جملة ما فقدت، إذ أفكر، أصل إلى قناعة أن قادة الكيان الصهيوني الغاصب، إلى جانب عنجهيتهم ورغبتهم في الثأر الدموي لاسبابٍ منها ما يتعلق بالحسابات العقلية الباردة وأخرى شخصية كتشبث نتنياهو بالسلطة وتبييض صفحته، هؤلاء القادة لم يراهنوا على اللوبي الصهيوني وحده، بل على معرفتهم بطبيعة الأنظمة المجاورة وفهمٍ لشعوبنا، المهزومة تماماً والمُباعة من قبل هذه الأنظمة منذ القدم. نحن سنتابع المسلسلات لنسلي صيامنا، وفي الأصل ننسى هزائمنا وعجزنا المهين المؤلم. نحن شركاء ومتواطئون في جريمة الصمت مع هذه الأنظمة التي قررت تصفية القضية الفلسطينية، قضيتنا واستسلامنا لموروث ثقافة الهزيمة والإذعان، مع عدم إنكاري بأنهما صُبا صباً في نفوسنا ودُمغا بالحديد والنار من قبل الطغاة وأجهزتهم السادية المتوحشة.
للتذكير، فحل هذه القضية هى طوق النجاة لتحررنا لتخطي مأزقنا التاريخي الجمعي؛ لست مزايداً على أحد ولا بريئاً أو بعيداً عن الجريمة والذنب، لكنني أود أن أؤكد وأذكر بأن النسيان ابن الهزيمة العميقة البكر وأننا لا يتعين أن نثور على الأنظمة سياسياً فحسب، بل لا بد أن يصاحبها، بل ويسبقها، أن نتمرد على ذواتنا، على أفكارنا وتسليمنا وانهزامنا.
كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية