مدخل التجديد الثقافي والحضاري

في الأسابيع الماضية أبرزنا أربعة مداخل للخروج من الوضع المأساوي المتخلّف الذي تعيشه أمتنا العربية حالياً. وهي مخارج مترابطة متناغمة، تمثل جزءاً من مشروع نهضوي عربي متكامل، وقد تمثّلت في مداخل الوحدة العربية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والقومي.
اليوم سنتحدث عن المخرج الخامس وهو التجديد الحضاري والثقافي، والواقع أنه من دون مواكبة هذا المدخل للمداخل الأربعة تلك فإن جميعها ستكون مهدّدة بأن تصبح مشوّهة، أو مظهرية متلاعبا بها من قبل هذه الأقلية المتسلّطة أو تلك. ومن أجل تحقق التجديد الحضاري هناك عناوين مفتاحية لا حصر لها، كتب عنها المصلحون والمفكرون الكثير منذ القرن التاسع عشر، مثل الدخول في قلب معمعة محاربة الخرافات، وممارسة العقلانية وحقوق المواطنة، وعلى الأخص للمرأة والعدالة والمساواة في الفرص، وتوازن الحرية الفردية مع الحرية المجتمعية، وغيرها الكثير.

التجديد الثقافي والحضاري العربي ما عاد موضوعاً يمكن تأجيله، إذ أنه في قلب كل نضالاتنا الوطنية والقومية من جهة، وفي قلب علاقاتنا مع العالم كله وحضارته من جهة أخرى

لكن ما يهمنا إبرازه هو أن التجديد الحضاري في بلاد العرب له متطلب أساسي للولوج فيه وهو، متطلب المراجعة العميقة للتراث، وعلى الأخص التراث الفقهي، تحليلاً، وتخلصاً مما علق به من خرافات وأفكار قد تصلح لأزمان غابرة، ولكنها حتماً ما عادت تصلح لأزمتنا الحالية، خصوصاً بعد أن أصبحت موجة ظاهرة العنف والتطرف الديني في المجتمعات العربية تعتمد على نتف فقهية منتقاة من هنا وهناك ومراد لها أن تكون في مرتبة قدسية القرآن الكريم والأحاديث النبوية المؤكدة وغير المدسوسة.
وتكمن أهمية تجديد الفكر والفقه الإسلامي لأسباب أربعة.
فأولاً من أجل أن يعي بوضوح شباب وشابات الأمة، أن التراث الفكري والفقهي الإسلامي كان حصيلة جهد من المجتهدين عبر العصور، منهم الفقهاء والمفكرون والفلاسفة المتكلمون، وأن ذلك الاجتهاد ارتبط بحاجات وأناس تلك الأزمنة والعصور، وأنه، كأي اجتهاد بشري ليس مقدّساً، بل كان قابلاً للصواب والخطأ. ولذلك فالتجديد الفقهي والفكري الذي نتحدث عنه ليس تجديد النصوص القرآنية، ولا الأحاديث النبوية الثابتة المؤكدة، وإنما تجديد الفهم البشري لتلك النصوص. ولن يكون تجديدنا إلا تجديداً في سلسلة طويلة ستمتد عبر العصور المقبلة.
ثانياً، أن التراث الفكري والفقهي الإسلامي، يمثل أسس وروح الثقافة العربية، خصوصاً الثقافة الجماهيرية السائدة، ومن دون تجديد ذلك التراث والفكر الفقهي لا يمكن الحديث عن تجديد أسس وممارسات الثقافة والحضارة في بلاد العرب.
ثالثاً هناك الحاجة لتجاوز الخلافات والمماحكات والصراعات حول موضوع الشريعة الإسلامية، التي نصت عليها غالبية الدساتير العربية، كمصدر للتشريع، وهو ما يتطلب فهماً وقراءة متجددين للنصوص القرآنية ومقاصدها الكبرى، وربطها بالتغيرات الهائلة في حياة المسلمين العرب الحديثة، بعيداً عن التزمت والانغلاق الذي يمارسه البعض.
رابعاً، هناك أهمية كبرى لتقديم فكر وفقه إسلامي قادر على أن يساهم في حل الكثير من المشاكل الإنسانية، المجتمعية منها والقيمية والأخلاقية والعلمية ـ التكنولوجية. وهذه النقطة أصبحت بالغة الأهمية مؤخراً بسبب ما أظهره الفكر النقدي لما بعد الحداثة في الغرب، من نقاط ضعف كثيرة في بعض أفكار وممارسات وسلوكيات الحضارة الغربية، المهيمنة على العالم منذ عدة قرون. ويزيد الوضع تعقيداً ما أضافته إلى تلك الثقافة الكلاسيكية الغربية ثقافة العولمة النيوليبرالية الرأسمالية البالغة التسطيح والتّسليع والتشييء لكل شيء.
من هنا فإن مخرج التجديد الثقافي والحضاري العربي ما عاد موضوعاً يمكن تأجيله، إذ أنه في قلب كل نضالاتنا الوطنية والقومية من جهة، وفي قلب علاقاتنا مع العالم كله وحضارته من جهة أخرى. ومن الضروري التّنبيه إلى أن تجديد الفكر والفقه الإسلامي، أحد المكونات الرئيسية للثقافة والحضارة العربية، يجب أن لا يقتصر، كما يصر البعض، على استعمال أدواته ومنطلقاته الذاتية فقط. فهو سيحتاج إلى أن يستفيد للقيام بذلك من كل ما توصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية والاجتماعية الإنسانية الحديثة ومختلف المدارس الفكرية الفلسفية الحديثة. عند ذاك نستطيع أن نقول إننا نمارس تجديداً ذاتياً مستقلاً من جهة، ومستفيداً من منجزات العصر الحالي الهائلة من جهة أخرى. مرة أخرى ننبّه شابات وشباب الأمة إلى أن حديثنا عن المداخل الخمسة، كان ولا يزال ضمن تركيبة لمشروع إيديولوجي شامل يأخذ بعين الاعتبار تاريخ وحاضر ومستقبل هذه الأمة بمرونة وانفتاح وتفاعل مع متطلبات العصر العربي الذي نعيشه.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية