محمد سليمان شاعر الحواس المشتعلة: صوت يمضي إلى الشعر بلا تكلف ويخرج عليه بجرأة العارفين

حجم الخط
0

يظل الشاعر محمد سليمان واحدا من أبرز شعراء مصر في العقدين الأخيرين. فقد نجح في مراكمة كمية ونوعية في قصيدة الشعر الحر متجاوزا الكثير من الآفاق المحدودة والأطر الضيقة التي أرادها للقصيدة شعراء جيله، بعد أن تكلست الكثير من التجارب واستنامت الى مرجعية النص المكتوب الذي أصبح تراثا، لاسيما في الصيغة التي طرحها نص جيل الريادة.
وسليمان الذي قارب الخامسة والستين الآن يعد واحدا من هؤلاء الذين امتلكوا حساسيتهم الخاصة في الأداء الشعري معضدا بذلك كونه صوتا يملك خصوصيته منذ أن قدم ديوانه الأول ‘قصائد رمادية’.
وعلى رأس جيل السبعينيات في مصر يقف سليمان، وهو في خطواته الشعرية، البعيدة عن الخيلاء، يؤكد هذا المعني في دواوينه التي تجاوزت الآن اثني عشر ديوانا.
وبين أعمال سليمان سيظل ديوانه ‘اسمي ليس أنا’ الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة مؤكدا على جدارته بنحت موقعه الخاص والمتميز وسط هذه القافلة الصغيرة من الشعراء. فبعد سجالات طويلة وصراعات متعددة الاتجاهات خاضها هذا الجيل استوت الملامح وباتت قاب قوسين أو أدنى من موقع ـ الشعراء الكبار ـ حسبما يحلو لنا في الأدبيات العربية أن نسمي الرواد وأن نفرق بينهم وبين من هم دون النجوم.
والديوان الذي ينقسم الى ستة أجزاء ويضم كل جزء عدة قصائد هي أقرب الى القصر والتكثيف، يذهب الى ما يمكن تسميته التعيين الشعري الذي يثير في المقابل خوفا وجزعا من فكرة التشيؤ ذاتها، وهو منحي يخص محمد سليمان منذ ديوانه ـ سليمان الملك ـ رغم كونه خطابا شعريا يتماهي زمنيا مع التاريخ، والأسطورة، فيما كان يحاول أن يصنع من شعريته فلكلورا خاصا يماهي بين سليمان الشاعر وسليمان الحكيم.
في هذا الديوان تتنامي ملامح الشعرية وتتواشج، مع التاريخ الشعري لسليمان، وسنجد أسطورة وحيد القرن مسيطرة على أكثر أجواء الديوان، وسنجد مناخات قرية ـ مليج ـ مسقط رأس الشاعر، سنجد الشقة، وسلم الجارة، وانهيار سلم القيم الاجتماعية، الفقر، المرض، الشيخوخة، ورائحة العطن، والشيخوخة كل ذلك يبدو منبثا مضافا يرقد هذه التجربة، بعد أن غادرت ضجيج الأصوات الأولى.
فمحمد سليمان الذي كان متهما بالتأثر بصلاح عبد الصبور استطاع تجاوز محنة الاتهام منذ عدة دواوين بل ربما منذ ديوانه الثاني ـ سليمان الملك ـ ولم يتبد هذا التأثر واضحا سوى في ديوانه الأول ـ قصائد رمادية ـ وهو ديوان يبدو أن سليمان أسقطه من تجربته تماما، فقد دأب على وضع قائمة بأعماله في نهاية كل ديوان، عادة ما تخلو من هذا الديوان.
تبدو شعرية سليمان الأحدث أكثر جدارة بالانتباه فالأمر يجب ألا يختلط وسط زحام الاتهامات العشوائية التي لا تصدر عن وعي أو متابعة حقيقية. فسليمان الذي يتماهى مع الوعي الشعري لتيار واسع ينتظمه صلاح عبد الصبور؛ يبدو مختلفا على مستويات عدة، ففيما تمتح لغة عبد الصبور من تعميق فكرة التأمل الإنساني وإنضاج هذا التأمل ليتحول الى موقف من الوعي بالعالم، يبدو وعي سليمان باللغة أكثر اقترابا من الأجيال الأحدث في الكتابة الشعرية، لذلك تبدو مراوحاته أكثر انحيازا لقصيدة النثر رغم انه ما زال يلتزم الإيقاع الخليلي بالمعنى الدقيق، وهو فيما أرى نوع من مغالبة طبيعة النص نفسه، الذي لا يبعده عن قصيدة النثر سوى شكله فقط، وسوى بعض القناعات لدي الشاعر عما يسميه بالنغمية.
وفيما تكتمل للشاعر صلاح عبد الصبور أدوات الشعر عبر الوعي الكلي بقضاياه الوجودية والمجتمعية تكتمل لسليمان أدوات الشعر عبر الوعي الجزئي الذي أحال اللغة الى شؤونها الوظيفية التي لا تعتني بأي نوع من البلاغة سوى عبر بلاغة المشهد الشعري في اكتماله.
علي جانب آخر يدرك سليمان جيدا المسافة التاريخية التي يتأرجح فيها نصه بين الغياب والحضور، ويتمكن عبر وعيه بهذا الابتسار الواسع وهذه الهزيمة الحضارية الكاسرة أن يعيد رتق الكثير من هذه الفتوق، وتغدو مرارات الانكسار والهزائم المتصلة طعما سائغا للشعر، ومن ثم تكون مادته.
كائنات سليمان الشعرية تعيش وسط ـ نوستالجيا ـ لا يعرفها ولم يعرفها شعر صلاح عبد الصبور الذي كان يجاور مشروعا حضاريا ويكتب كتفا بكتف الى جوار حجازي ودرويش وأدونيس وسعدي ومطر، لذلك فقد كان مؤرقا بحاضره، لم يكن في حاجة لهذه ـ النوستالجيا ـ التي يرعاها سليمان برفق وحميمية، لذلك تتبدي دائما باعتبارها محصلة الهزيمة الحضارية. على مستوي آخر لم ينخدع سليمان بسراب التركيب اللغوي والمواقف الأكثر عنقودية للوعي الصوفي الذي أودى بكثير من مجايليه، فبقدر إغراء هذه الكتابة المسترسلة في غموضها وتفجيراتها للغة بقدر خوائها الذي ينطوي على أكذوبة كبري تمثل المسافة الشاسعة بين المتصوفة الأوائل الذي أدركوا الموقف المحال من طبيعة الأحوال، ولم يدركوه وهم ينامون على مؤخراتهم الأسفنجية ويضطجعون أمام مكيفات الهواء.
باختصار نستطيع القول أن الشاعر محمد سليمان الذي أنضج تجربته على مهل يبدو أكثر ثقة في المستقبل رغم حديثه الممرور عن شيخوخته التي تبدو شابة بروحه الطربة والمنفتحة شعريا وإنسانيا .
فمحمد سليمان حريص على الانتقال بكائناته الشعرية من ديوان الى آخر، وفي ديوانه ـ اسمي ليس أنا ـ ينتقل معه كائنه الأثير ـ وحيد القرن ـ هذا الوحيد الذي حصل على الجزء الأول من الأجزاء الستة للديوان والذي جاء تحت عنوان ـ مثل وحيد القرن ـ، وهذا التماهي الذي استغرق سليمان في أكثر من ديوان يبدو تماهيا بين الذات الشاعرة وهذا الحيوان الضخم الطيب الذي ربما يشبه سليمان في أشياء ليست قليلة.
فوحيد القرن هو الذي ‘يجر النهر من الأعماق ويحرر سُحبا من ألوان الرسامين، ويفاوض شمسا هاربة ..’ هكذا يقول سليمان،
ثم يمضي قائلا:
وحيد القرن يمص غيوما نبتت في الذاكرة
وحيد القرن يربي شجرا في المنديل
وحيد القرن يراوغ صف بنادق وتماثيل،
وحيد القرن يفتش عن كلمات لم يمسسها الصيادون
وحيد القرن وحيد
صلوا من اجل وحيد القرن.
سنجد سليمان يعود الى وحيد القرن في الجزء الثاني المعنون ـ استراحة الجندي ـ لكنه في هذه القصيدة يبدو أكثر إفصاحا، فيتخلي وحيد القرن مؤقتا عن قوته المفرطة ليبدو أكثر هوانا وضعفا، وليبدو مثيرا للسؤال، رغم مساحات البوح الواسعة التي تتراوح بين البوح الذي ينتسب لضمير المخاطب، والبوح الذي ينتسب لضمير الغائب وكلاهما ـ الشاعر ووحيد القرن يتبادلان المواقع، يقول الشاعر:
أنا وحيد القرن
ظلي على الرصيف لم يعد يتبعني
وصيحتي
في داخلي ترن
أنا الفتى القديم لست جوربا
وأنت لست قاربا ينسل
أو أفعى
دعنا إذن
نجرب الهواء مرة معا.
وفي الجزء الثاني من القصيدة المعنون ـ من أنت؟ ـ يعلن الشاعر حربا ضد وحيد القرن، يعلن الحرب ـ بالأحرى ـ ضد نفسه، فالسؤال هو سؤال الكينونة، التي تبعثرها قسوة يومية غير مفهومة ومنظومة قيمية لا تحمل إلا أكثر الوجوه قبحا للسقوط الحضاري والمجتمعي، لذلك تبدو أسئلة الشاعر مفزعة وأجوبته أكثر فزعا، يقول سليمان:
لك أن تعلن حربا ضد وحيد القرن
لك أن تنساه
وأن تهجوه
وأن تتمنى أن يخرسه الله
لكيلا يركض في الطرقات ويعوي
لك أن تعلن إن زمان الشعر مضى
لماكينات ستكتب شعرا أبهى
والأجراس ومليارات الورق وغلايات المقهى
لك أن تعلن أن اللغة هي الأرقام
وأن البنك هو القاموس.
ورغم الانتقالات المتفاوتة التي تحققها قصائد الديوان لا تكاد تخلو قصيدة من مساحات واسعة للمفارقة التراجيدية التي لا تعتمد على التقابلات والمفاجآت بل تعتمد على التوليد الشعري من هزلية المأساة وأحيانا سخريتها مثلما يتبدى ذلك في قصيدة ـ لا أحد خلفي بخنجر سيعدو ـ ففي هذه القصيدة التي لا تتجاوز سطورها احد عشر سطرا يبدو نوع من الثناء المكتظ بالسخرية على الفقر وعلى ضياع السلطة، فالشاعر هنا لم يكن ساعيا للمال ولا لتبوء راية من الرايات أيا كان اسمها، لذلك سينام قرير العين مثل عمر، الذي تتناص القصيدة مع جملته الشهيرة: حكمت فعدلت فنمت آمنا يا عمر .. يقول سليمان :
لست راية لبلادي
لست جنديا
ولا بائع مدافع
لست مليونيرا ولا أميرا
بوسعي أن أنام اذن
تحت شجرة ابن الخطاب
أو في بيتي
تاركا ساعتي في الدرج
ونظارتي أيضا
لا احد خلفي بخنجر سيعدو
أو يفكر بانقلاب ضدي.
والديوان في مجمله تنتظمه وحدة نسيج في الأداء المتساوق والأكثر هارمونية، لذلك تبدو انتقالات الشاعر بين موضوعاته العشرية سلسلة، غير مثقلة بترهلات تذكر سوى في القصائد الأولي التي حفلت ببوح ناعم لا يضجر القارئ باسترساله، لكن مهارة سليمان تبدو معبرة عن نفسها بحذق في القصائد القصيرة، لا سيما في الأجزاء التي انتظمت قصيدتي ‘ الجثة التي في البيت ‘ و ‘ دفاتر العزلة ‘ يبدو ذلك جليا في قصائد ‘لم اخترع شمسا، قد اتذكر وجهي، جارتي، قلت لهم وعادي مثل الباص أنا وأخيرا قصيدته أنا الذي هنا’.
في هذه القصيدة يعاود الشاعر محمد سليمان وضع فواصل وداعية مع وحيده ورفيقه وحيد القرن وتبدو الأجواء أكثر جنائزية في هذه الإيقاعية التي انتظمت القصيدة حيث اختار سليمان متفعلن متفعلن ليكون الرجز هو الخلفية التي تقدم هذه الجنائزية المرتبطة بحداء الإبل في الصحراوات العربية حسبما كان يرى العرب، فرغم أن الرجز هو اقرب البحور الشعرية الى لغة النثر إلا أن انتظامه النغمي وسلاسته الإيقاعية تربطانه بحركة الجسد بشكل وثيق كما تربطانه أيضا بالعديد والفلكلور والهزيج والنشيج الشعبيين، يقول سليمان في القصيدة:
أنا الذي هنا وليس أنت
أنا الذي في الطابق السفلي
قرب النار
والغبار
والعفن
أنا صديق النمل والباصات
والكرات عادة تأتي
مركولة إليّ
أنا وحيد القرن
أنصت إذا
لكي أمد صيحتي
وأنتمي للصمت.
من هنا ربما يبقى ديوان ‘اسمي ليس أنا’ واحدا من أهم دواوين محمد سليمان إن لم يكن أهمهما على الإطلاق، فهو ديوان يؤشر على التحقيق الباذخ لهذه التجربة وعلى تجارب قليلة قرينة له من بين أعضاء جيل السبعينيات مثل حسن طلب وعبد المنعم رمضان والراحل حلمي سالم، وجمال القصاص وأحمد طه ورفعت سلام وصلاح اللقاني، والراحل وليد منير وآخرون، ويبدو استمرار الإقصاء الذي ترتكبه الدولة حيال هذه التجربة نوعا من العته الذي ليس غريبا على مثل هذه المؤسسات الخربة التي تقدم نفسها باعتبارها راعية للثقافة، ويزاد الأمر غرابة بعد نشوب ثورتين كبيرتين لم تقتربا حتي الآن من حقل الثقافة المعشوشب والمليء بالزعانف التي استنكر المتنبي قبل مئات السنين أن تكون بين الشعراء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية