محمد العامِرِي وأنا في الذُّبُول المُريب من الحُلُم

في تجربة الكتابة والتشكيل التي خُضْتُها مع الشَّاعِر والفنان التشكيلي الأردنيّ، الصديق محمد العامري، في العمل الشِّعْرِيّ «كوميديا العَدَم [في الذُّبُول المُرِيبِ من الحُلُم]» كُنَّا، معاً، نعيش، في هذا العَمَل، نفْسَ الإحساس الجنَائزِيّ القِيامِيّ، بما فيه من بناء ملحمِيّ هو غُرُوبٌ مُشْرِقٌ، رغم ما في العمل من وُجُودٍ في ما هو خارِجَ الوُجود نفسه.
كان كُلّ واحِدٍ مِنَّا، ونحن في غَمْرَة على هذا العمل الشِّعْرِيّ الفَنِّيّ، نُدْرِكُ أنَّنا دَخَلْنا في غُمُوضٍ شَفِيفٍ، كُلُّ واحِدٍ مِنَّا كان يتمثَّلُه بطريقَتِه، رَغْمَ أنَّنا الْتَقَيْنا في أشياء، كان الشِّعْرُ فيها هو الجِسْر الذي وَصَل بَيْننا، لأنَّ محمد العامِرِيّ شاعِر، أدْرَك أن ما جَمَعنا من عَمَل، سيحْتاجُ إلى قارئ غير قارئ الشِّعْر، الذي اعْتَادَ على قراءة ما هو مطْرُوح منه في الطريق.

٭ ٭ ٭

وإذن، فهذا العمل بِشُرْفَتَيْه، هو عمل في اللانهائيّ من جهة، وهو عمل اسْتِشْرافِيّ، ليس فيما يذهبُ إليه ويقوله، بل في سياقه الشِّعْرِيّ الفَنِّيّ. لا يمكن لحدسِنا المُشْتَرَك أن يكون اعْتِباطياً، وهذا ما أدْرَكْناه عند من قرؤوا العمل، وعاشوا فيه نفس ما عِشْناه، لُغَة ورسْماً، أو تَخْطِيطاً.
كُنَّا، في هذا العمل، خارِج الوُجود الفيزيقى ـ الفيزيائِيّ، الخيال، بِصُوَره ومجازاته، وبما فيه من حَرْف ورَمْزٍ وحَذْفٍ وبياضات، وما فيه من أبْعاد سيميائية، هو ما أخذَنا إلى المَكان الذي لا تَعْبُرُه الأرواح إلى نَوْمَها الكبير، كما يُسَمِّيه ابن عربي، لكننا، العامري وأنا، كُنَّا في عُبورِنا، في كامِل نَشْوَتِنا، التي هي يَقظَة، فِتَنُها، هي ما اسْتَرْشَدْنا به في هذا العُبُور الذي أفْضَى بنا إلى ما بَعْد المَوْتِ، وما بعد الحياة، إلى [الذُّبُول المُرِيبِ من الحُلُم]، لا نَحْن في الحُلُم، ولا نَحْنُ خارِجَه، كما لا نحن في العَدَم، ولا نحن في الوُجود، وهذا ما جعل العمل يكون باسم الـ«كوميديا» لما فيه من مُفارقاتٍ، ما لم نتَمَثَّلْها وندخُل فيها، فإنَّ قراءتنا لهذا العمل، ستكون قراءة غير مُبْصِرَة، قراءة تحتكم إلى الأذن وَحْدَها، وهذا غير ممكن، كون العَمَل هو تأجِيجٌ لِكُلّ الحواسّ، التي في تَجاوُباتِها، كانت حاسَّة واحِدَة، تُشْبِه الماء حين يشُوبُه ماءٌ، لا فَرْقَ في الشكل واللون، وفي شفافَة الماء التي هي غُموضُه.

«ذَابَتِ الأنْحاءُ في بَعْضِها
الجِهَاتُ تَدَاعَتْ
لَمْ أعْرِفْ في أيّ اتِّجاهٍ أسِيرُ
اخْتَلَّتْ وِجْهَتِي،
لا
فَرْقَ عِنْدِي
بَيْـنَ
الصُّعُودِ
والنُّزُولِ.
أأنَا
أمْشِي أمْ واقِفٌ،
الغَابَةُ،
خَلْفِيَ أم أمَامِي !!؟
دُوارُ اللاَّ أيْن، واللاَّ وِجْهَة، اخْتِلاط والْتِباسُ الجهات والأماكن والأصواتُ والألوان والأنفاس، وكأنَّنا صِرْنا في ما قبل الخَلْقِ، في ما قبل الوُجود، في هذا العَدَم الذي سبق.
العَدَم، أو ما سمَّاهُ ابن عربي بـ «العَماء» الذي هو «عماء ما فَوْقَه هواء وما تَـحْتَه هواء» أي ما يكون انبِثاقاً دون ظُهُورٍ أو تَجَلٍّ. أو هو بمعنى آخَر، عند ابن عربِيّ، في سياق «كوميديا العدم» «عَدَم العَدَم» الذي هو الوجُود، لكن السُّؤال هنا، هو أي وُجُود، بأيّ خيال، وبأي معنى، أوَ ليس هو نفسُه الأرض السماوية، كما هَجَس بها ابن عربي!؟

٭ ٭ ٭

محمد العامِرِي، الْتَقَطَ كُل هذا، وفَهِمَ كشاعر وفنَّان، أنَّ الأمر لا يعني دانتي، ولا يعني عَمَلَه الذي كان في نفس السِّياق، بل إنَّ عَمَل دانْتِي يكْشِف لنا، فقط، الكُوَّةَ التي منها دخَل إلى هذا الغُموض السَّدِيمِيّ المُبْهَم اللانهائي في وجودنا، لنَتْرُكَه خَلْفَنا، ونَخُوض مُجازَفَة أن نَحْرُجَ من جِسْمَيْنا، تقودُنا الرّوح، التي نتوهَّم أنَّنا عَرَفْنا ما تكونُ شِعْرِيًا وفَنِّيًا، لا بالمعنى الدِّينيّ، حتّى لا يلتبس الأمر على من يقرؤنا الشِعْر بالدِّين.

فمحمد عرف كيف ينْثُر مَعِي المعنى الفجائعِيّ في هذا العمل، وكيف يُضاعِف الدَّال اللُّغَوِيّ، بالدَّال الإشاريّ الرَّمْزِيّ، ليظهر العمل في بنائه الملحميّ، غير ما عرفناه من شِعْر، يكتفي بالصَّوْت الغِنائِي المُفْرد، في وُجود مُفْعَم بالعَدَم، بهذه الكوميديا الذي أدْرَك المتنبي أنَّ الضَّحِكَ فيها، هو نفسه البُكاء.

٭ ٭ ٭

لا أتصوَّر قراءة هذا العمل دون ما فيه من تُـحَفٍ فَنِّيَّة، خاصَّة بهذا العمل، بعكس ما يمكن أن يكون عليه العمل الفني في بعض الكُتُب الشِّعرية من معْنى تَزْيِينِيّ فقط، وهنا، فلا داعِيَ للزواج الكاثوليكي بين الشِّعْر والرَّسْم، أو التشكيل.
وإذن، فنحن إزاء لقاءٍ يدخل في طبيعة الشِّعر، في علاقته بالفنون قاطِبَةً، بالموسيقى، بالرقص الكوريغرافِيّ، بالسينما والمسرح والغناء، رغم أنَّ الرسم والتشكيل، كانا الأكثر علاقة بالشِّعْر، أو الشِّعر كان الأكثر علاقة بهما، لا فرق، ما دام الشِّعْرُ، الحواسُّ تتصادَى، وتعمل بَنَفْسِ النَّفَس، كأنَّها حاسَّة واحدة لم نَعْرِف كيف نَـجْمَع ما حدَث فيها من شَتَاتٍ.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية