هل بدأت أجهزة الدولة في مصر رفع القيود المفروضة على الإعلام؟!
قديماً قال مدعي: الجمل صعد النخلة. فقال مشككا: هذا هو الجمل وهذه هي النخلة!
ونحن على البر، وقبل الخوض في اللجج، فإنه لا يفوتنا أن نوجه الشكر للإعلام الجديد، فلولا مقاطع الفيديوهات، التي تنشر عبره للبرامج التلفزيونية، لما عرفنا أن هذا الإعلامي عاد للشاشة، أو أن غيره اختفى. وبهذه المناسبة الطيبة، نتذكر أن السلطة الحالية في مصر لم تنجح في صناعة ذراع إعلامي واحد في معاملها، وكان هذا هدفاً في بداية الانقلاب، ثم تضاءلت الأحلام، واستمرت الاستعانة بقوات الاحتياط، من المجموعة المنتقاة في عهد مبارك، للتدشين لمرحلة التوريث!
وكان الانقلاب يراهم عبئاً عليه، ولهذا أحال بعضهم للتقاعد، ثم أعادهم، ومنهم من تكررت معهم عملية الإحالة للاستيداع والعودة للثكنات أكثر من مرة، دون أن يسمع بهم أحد، والاستدعاء مرده الى فشل صناعة الأذرع الاعلامية في المختبرات العسكرية، ضعف الطالب والمطلوب!
ومنذ اللقاء بين المذيع، والمحامي، خالد أبو بكر، مع الضابط السابق المتهم بالإرهاب هشام العشماوي، العائد من ليبيا مقبوضاً عليه، غاب اسم المذكور عن أسماعنا، وهو مثال للأداء التلفزيوني الفاشل، فقد اصطفاه القوم، ليقوم بالدور، الذي كان يقوم به الراحل الكبير حمدي قنديل، واعتذر عنه في وقت لاحق، من إجراء مقابلات تلفزيونية مع سجناء الإخوان في عهد عبد الناصر، لكن الفرصة لا تصنع إعلامياً، ما لم تتوافر الكفاءة، وحتى من ناحية طبقة الصوت لم يكن أبو بكر مؤهلاً لذلك، والمطلوب أن يجسد بأدائه وطبقة صوته الانتصار المصري، والقدرة على تعقب من يلعبون ضد النظام، ولو كانوا خارج الحدود أو في بروج مشيدة. وطبقة صوت المذيع المذكور، تدور بين «السوبرانو، وميزو سوبرانو، وطبقة الكونترالتو»!
ومثل هذا اللقاء كان يصلح له مفيد فوزي، بقدرته على التمثيل والادعاء، وكان سيهجم على الفريسة، ويضع له الميكروفون داخل فمه، فلا تبدو «عبارة حمد الله على السلامة يا هشام»، كما لو كانت جادة لا تحمل أي قدر من سخرية المنتصر، وكأنها تهنئة لعائد من الحجاز، بعد أن أدى فريضة الحج، في إحدى الدول العربية!
بيد أن القوم وقع اختيارهم على خالد أبو بكر، كجزء من عملية صناعة ذراع إعلامي على أعينهم بتمكينه من فرصة كهذه، فبددها بتواضع الأداء وطبقة الصوت، وإن كان الإرهابي الكبير، والضابط السابق، ساهم في تبديدها بعدم رده أو اكتراثه بهذه «الفصلة»، التي وضعت قسراً بين جملة واحدة!
التبشير بالتحول الديمقراطي
ومنذ هذه المقابلة، اختفى سالف الذكر عن أعيننا، لكي نشاهد له مقطعاً من مقابلة تلفزيونية يبشر فيها بالتحول الديمقراطي الذي تشهده مصر؛ فأجهزة الدولة بدأت في رفع القيود عن الإعلام، فعلمنا أنه عاد للشاشة، وربما لم يغادرها، ولم يجد نفسه في حرج، عندما رد عليه البعض بأن ما يقوله اعتراف بوجود القيود، فأكدها ولا يسمع للناس كلام ولا يخشى من الناس ملام (راجع أغنية الست؛ أبو الوفا أبو الوفا، يستوي لك النص)!
بيد أن ما يؤخذ عليه مع هذا الاعتراف قوله إنهم لم يقولوا إنهم يشهدون ديمقراطية كديمقراطية أمريكا، والحقيقة المرة، إن المقارنة هنا ينبغي أن تكون بين الحاصل الآن والعهود السابقة، فالحسرة لا تؤسس لها المقارنة بالحرية في واشنطن، ولكن بالمقارنة بما كان في عهد مبارك، وكنا نطلق عليه أنه «هامش»، ولا نقول بالمقارنة بعام حكم فيه محمد مرسي، حيث كانت الحرية الإعلامية سقفها السماء، لكن المشكلة أن الميكروفون استمر في أيد كان ينبغي أن يحاكم أصحابها بتهمة افساد الحياة الإعلامية والسياسية، وقد باعوا مبارك، والتحقوا بقطار الثورة، فيما سمي بـ «المتحولين»، وكان حكم ما بعد 2013 يدرك أنهم سيبيعونه عند أول منعطف، لكنه مضطر لأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، بعد فشله في صناعة ذرع إعلامي واحد، ومع أن الامتيازات التي منحت للشاب الطاهري مثلا، لم تمنح لهيكل في عهد عبد الناصر، إلا أن تجربة تصنيعه وغيره فشلت، فكان حكم الضرورة، والمضطر يركب الصعب، كما قالت العرب!
مما قاله المتحدث الرسمي باسم الأجهزة، التي بدأت في رفع القيوم عن الإعلام، إنها رأت ضرورة أن تبدأ في هذا الاتجاه. وذلك بطبيعة الحال، على غير فلسفة الحكم، الذي يرى أن تراخي قبضة مبارك ونظامه، والحرية النسبية في العشر سنوات الأخيرة من عهده، هي السبب في ثورة يناير، فلا حرية، ولا سماح ديمقراطي، إذن ربما أن الأجهزة التي تدير المشهد الإعلامي اتخذت قرارها بعيداً عن الجنرال، فهل هذا يمكن أن يكون صحيحاً؟
جولة في المشهد الإعلامي
لقد أخذت جولة في المشهد الإعلامي والسياسي، فلم أجد سوى هذه الهجوم في مجلس النواب على وزير التموين، وتحميله كل الفشل الاقتصادي، وجنون الأسعار، وعدم توافر السلع، وفي عمر هذا البرلمان الذي اقتربت نهايته واحدة أخرى أو اثنتين من هذه الطلعات الجوية التي لا ترتب أثراً، وفي أغسطس/آب 2022، جدد البرلمان الثقة في الوزير، وبعد «الهوجة الأخيرة»، لم نسمع أن البرلمان صوت على سحب الثقة منه!
وهذا الهجوم، ضد فلسفة السيسي في الحكم، والتجربة أنتجت فلسفتين؛ الأولى اعتمدها السادات لطبيعته الشخصية، والثانية اعتمدها مبارك للسبب ذاته، الأولى أن الرئيس هو من تولى بنفسه الاشتباك مع المعارضة، فنصح أهل الحكم مبارك بألا يكون السادات، فشاهدنا المعارضة الموجهة تحمل هذا الوزير أو ذاك مسؤولية الفشل، ثم تختم الأداء بأن الرئيس مبارك لن يوافق على هذا الفشل وهذا الفساد!
وعندما اقترح البعض على السيسي اعتماد صيغة مبارك، رفض وقال أنتم لا تعرفون هؤلاء الوزراء، لأنه من يعرفهم عن قرب، ويجلس معهم ست ساعات يومياً، والخلاصة هو يريد أن يقول إنه المسؤول الوحيد، وبلع رجاله (أصحاب المقترح) ألسنتهم!
ولم يقتنع، لو صريخ ابن يومين، بالهجوم على وزير التموين لدرجة تحميله مهمة ثقب الأوزون، ومن برلمان مصنوع، وتم اختياره على «الفرازة» وبالواحد، ولهذا بدا الأداء مفتعلاً، والهجوم مبالغاً فيه، وطبقة الصوت تم استدعاؤها بصعوبة من الأوتار الصوتية المتراخية، من قلة الاستعمال!
وربما وجدت الأجهزة ضرورة التنفيس، لأن الأوضاع البائسة تؤهل لانفجار الموقف إذ فجأة، وربما كان الوزير في طريقه للتقاعد، لكن فلسفة السيسي في الحكم ألا يتخذ قراره بناء على رغبة الجماهير أو ضغوطها، يتشابه في هذا مع مبارك. تبدو أنها الأجهزة فعلا!
بيد أن هذا لا يبدو هو ما وصفه المتحدث باسم أجهزة الدولة، من أنها بدأت في رفع القيود عن الإعلام، لأنه هو نفسه سخر من الأداء وكتب «يعني هي المشكلة في وزير التموين؟». وهو قول محمل بالسخرية، ليذهب عقلنا بعيداً عمن يعنيه خالد أبو بكر بأنه يمثل «المشكلة»؟!
كل على حاله
لا بأس، فقد طفت على الإعلام، فلم أجد على النار هدى، فما زالت الشركة المتحدة تضع يدها على الصحف والقنوات التلفزيونية، ولم تسلم صحيفة «المصري اليوم» إلى صاحبها، ولم نسمع أن المجلس الأعلى للإعلام وافق على طلب إصدار صحف جديدة، أو قنوات تلفزيونية بعيدة عن النظام، ولم يعد الكتاب الممنوعون للكتابة «فهمي هويدي، وعلاء الأسواني، وعمار علي حسن، وعبد الناصر سلامة، وجمال الجمل» وغيرهم، ولم نقرأ مقالاً معارضاً واحداً، وبطلة على الفضائيات، ما زالت برامج الرأي الواحد كما هي، فلا يزال إبراهيم عيسى يهاجم المقاومة، ولا يزال أحمد موسى يهاجم الإخوان، ولا يزال عبد الحليم قنديل ضيفاً يتحدث بعيداً، ولا تزال منى الشاذلي تقدم برنامج المنوعات، ولم نشاهد عبر هذه البرامج على كثرتها، شخصيات مثل يحيى حسين عبد الهادي، أو ممدوح حمزة، ولا نسمع صوتاً واحدا ينتقد الفشل، أو يتطرق لأزمة سد النهضة، بعيداً عن الأصوات الرسمية، ولا نسمع صوتا واحداً يطلب بوقف هدر المال العام فيما يسمى بالعاصمة الإدارية الجديدة!
وإن كان عمرو أديب يضرب ثم يلاقي، فهو ليس ضمن حسابات الإعلام المصري، فقناته قناة سعودية، وقد اكتمل أمره بحصوله على الجنسية السعودية، وليس في الأمر ما يشين، فإن استضاف اقتصادياً قال كلاماً خطيراً، وإن قال هو كلام خارج السياق، فلا يمكن حسابه عن الجرد على القول إن أجهزة الدولة بدأت في رفع القيود عن الإعلام!
فلا قيد واحد رفع!
صحافي من مصر