ماذا تعني الفاشية بالضبط لفلسطيني مواطن في إسرائيل؟

حجم الخط
0

ما زالت تداعيات الاحتجاجات الشعبية الإسرائيلية ضد حكومة بنيامين نتنياهو الحالية تحتل مساحات واسعة من نشرات الأخبار على مدار الساعة، وتشغل، في الوقت ذاته، أقلام الخبراء وكتّاب المقالة في معظم المنصات الإعلامية والبحثية والجرائد الرئيسية اليومية. ومهما حاول نتنياهو ومستشاروه اختلاق الأحداث وتسليط الضوء عليها في مساع منهم لتغييب مشاهد الاحتجاجات المستمرة، وإبعاد شعاراتها عن فضاءات الحياة اليومية، وكتم أصوات المعارضين، خاصة أولئك الذين بدأوا يربطون بين تحقيق الديمقراطية واستمرار احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، مهما حاول هو وأعوانه إلا أنهم لم ينجحوا.
من الضروري أن نتابع كيف تتطور حركة الاحتجاج الإسرائيلية، التي ظهرت في بداياتها كحركة عابرة جاءت لتطالب بالمحافظة على ديمقراطية الدولة اليهودية وحسب، ولا تحمل في داخلها عمق حركة احتجاج سياسية صلبة وجدية، وذات نفس كفاحي طويل ومتكيف لمستجدات الأحداث، لا مجرد نزوة ستتلاشى مع الأيام. ورغم بقاء هذا الشعار كمطلب الحركة الأساسي والشائع على ألسنة المعارضين، ورغم عدم تخلص قيادات هذه الحركة من عيوبهم ومواقفهم السياسية السلبية، تجاه ضرورة تمكين المواطنين العرب وقياداتهم من المشاركة في الاحتجاجات، لن نستطيع إغفال أهمية استمرار حالة الاحتجاجات وتأثيرها فيرسم معالم نظام الحكم في اسرائيل ومكانتها في المنطقة، وعلاقتها معنا نحن الفلسطينيين.

منسوب كراهية وعنصرية أتباع الحكومة للمواطنين العرب داخل إسرائيل تضاعف، وأمسى الفرد منا عرضة في حياته اليومية للاعتداء الجسدي عليه

كما علينا كذلك أن ننتبه إلى تلك الأصوات البارزة، التي لم يعد يكفيها العمل بوسائل الاحتجاج نفسها التي مورست مع بداية حركة الاحتجاجات، ومطالبتهم بضرورة البدء في عملية عصيان مدني شامل، معللين نداءهم اللافت بضرورة الدخول إلى مرحلة نضالية شعبية جديدة؛ من دونها ستفشل حركة المعارضة، وستنجح قوى اليمين، القومية والدينية، في إحكام سيطرتها على الدولة، والبدء بتنفيذ مشروعها وفق خطة الحسم المعلنة من قبلهم؛ والحسم في هذا السياق لن يكون ضد الفلسطينيين وحسب، بل ضد كل القوى اليهودية التي عارضتهم وستعارضهم. إنها لغة جديدة وجديرة باهتمامنا، نحن المواطنين الفلسطينين في إسرائيل؛ فرغم أن من أطلقها في البداية هما رئيس الحكومة الأسبق إيهود براك والجنرال يئير جولان، نجد أنها بدأت تستقطب دعم شخصيات اعتبارية أخرى، شرعت تدافع على الملأ عن الفكرة وتفنّد مبرراتها ولماذا يجب، في هذه المرحلة المفصلية، أن تتغلب الضرورات على المحظورات، كما فعل، مثلا، قبل عدة أيام البروفيسور مردخاي كرمنيتسر- وهو شخصية حقوقيه مرموقة ومعروفة في إسرائيل وفي العالم – في مقال طويل نشره في جريدة «هآرتس» العبرية، تطرق فيه إلى قضية شرعية العصيان المدني وضرورة إعلانه في المرحلة الحالية. قد يستبعد الكثيرون، خاصة بين المواطنين العرب، نشوب حالة من العصيان المدني داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، بناء على تاريخ هذا المجتمع ووقوفه دوما موحدا إزاء مسألتي الاحتلال واضطهاد الفلسطينيين، سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو داخل إسرائيل. وقد يكون ذلك الرأي صحيحا، إلا أن أحدا لا يستطيع أن يجزم كيف ستتطور الأحداث خلال الأسابيع المقبلة، وإلى أين مآلاتها، خاصة بعد أن فشلت حكومة نتنياهو بتحقيق ما كانت ترجوه حين بدأت اعتداءها العسكري الوحشي على مخيم جنين واختلاق حالة حرب مصطنعة، سمتها عملية «البيت والحديقة» كانت تتمنى أن تؤدي إلى إخماد حركة المعارضة كما كان يحدث في حالات مشابهة في الماضي؛ فحين كانت تضرب مدافع العسكر كان يصير الشعب اليهودي أبكم، وكل الدولة كانت تجتمع على قلب واحد ورصاصة، لم يحدث ذلك هذه المرة، بل على العكس فإن الاحتجاجات استمرت وبوتيرة أعلى في عدة مدن ومواقع إسرائيلية حيث واكبها أيضا اتهام نتنياهو من قبل الكثيرين من قادة الاحتجاجات والنقاد السياسيين بأنه افتعل هجومه على مخيم جنين لاغراض شخصية ولارضاء حلفائه السياسيين، وهذا ما أعاد البعض إلى تناول قضية الاحتلال في تصريحاتهم وفي مقالاتهم ووصفه كأصل البلاء ومصدر الشر الذي يجب أن يتخلصوا منه كي تضمن إسرائيلهم مستقبلها الآمن وينعم شعبها بالطمأنينة وبالسلم.
من الواضح أن حكومة نتنياهو مصممة على المضي في تنفيذ جميع فصول مخططها، ويبدو أنها ستنجز قريبا خطتها في إكمال منظومة التشريعات المطلوبة لتأمين سيطرة أحزاب الائتلاف الحكومي على مؤسسات الدولة، وتوزيع عائداتها بينهم، وفق تفاهمات يتحكم فيها قانون تبادل المنافع واقتسام الغنائم. ومن الواضح أيضا أن القوى السياسية والاجتماعية المعارضة لهذه الحكومة ومخططها لن تنسحب من ميادين المواجهة بسهولة، بل سمعنا قياداتهم يتوعدون بتصعيد وتائر المواجهة وزخمها، وهذا ما شاهدناه، في الليلتين الفائتتين حين خرجت أعداد ضخمة من المتظاهرين وأغلقوا شوارع رئيسية في عدة مدن رئيسية وتصادموا مع قوات الشرطة التي قامت بتفريقهم بعنف غير مسبوق واعتقلت العديدين منهم. لا أعرف متى سيستعيد المواطنون العرب وزنهم في ما يجري من أحداث داخل الدولة، أو ربما لن يستعيدوه؛ ولا أعرف من سينجيهم من المخاطر الحقيقية المحدقة بهم، ولا نعرف من سيهزم من في هذه المواجهة اليهودية-اليهودية، لكننا نشعر بأن منسوب كراهية وعنصرية أتباع الحكومة وأحزابها للمواطنين العرب داخل إسرائيل قد تضاعف بشكل خطير وحقيقي، حتى أمسى الفرد منا عرضة في حياته اليومية للاعتداء الجسدي عليه، في كل زمان وفي كل مكان. وقد يكون ما حصل معي في حيفا مطلع الاسبوع الجاري مؤشرا للمقبلات ونذيرا لكل واحد منا ومهمازا لمن يؤمنون بأنهم محصنون ضد فيالق الموت الفاشية، وبأننا، العرب، حتما سنكون المنتصرين في حرب اليهود التي نشاهد فصولها ونحن ساهمون على رصيف الأماني.
كنا في زيارة لابننا الساكن في أحد أحياء حيفا الجديدة التي تسكنها عائلات عربية ويهودية وينتمي معظمها للطبقة الوسطى المستقرة ماديا ووظيفيا. اصطحبنا قبل الساعة الثامنة مساء، زوجتي وأنا، أحفادنا الثلاثة لسوبر ماركت الحي لشراء بعض الحاجات والطعام. وقفنا في قسم بيع الأجبان والنقانق، وكنت أحمل حفيدي الأصغر، وعمره عامان. انتظرت بصبر حتى جاء دوري. توجهت للبائعة وبدأت أنقلها فسمعت صوت رجل يصرخ عليّ بالعبرية «يوجد دور». نظرت نحوه وقلت: «صحيح وأنا هنا قبلك» اقترب مني حتى كاد كرشه يلتصق بجسمي. كان ذا ملامح شرقية: أسمر الوجه ويلبس بنطالا قصيرا وصندلا إسرائيليا وكان رأسه شبه أصلع تتوسطه «كيباه» لم أنتبه للونها. حاولت أن أشرح له أنني هنا قبله ولا أتعدى على دوره فقاطعني بنبرة مهددة وقال «على ما يبدو انك لا تفهم، أنا هنا قبلك وسأشتري قبلك». كان يهيء قبضته ويستعد لضربي، لكنه لم يفعل. ربما لأنني ابتعدت عنه قليلا لحماية حفيدي ولأتفادى الصدام معه في هذه الظروف. تراجعت قليلا وقلت له: «لا تصرخ، تفضل خذ دوري» ثم أضفت: «كنت أتمنى أن تربي ابنك على قيم أخرى وليس على العنف والعربدة»، كان ابنه اليافع يقف وراءه ويشاهد كل ما يحصل دون أن يتدخل. ما أن أنهيت جملتي حتى انفجر بوجهي كذئب مسعور، اقترب مني مرّة اخرى وهو يصرخ ويناديني «أنت أيها المخرب تريد أن تعلمني قواعد التربية، أنت تجيد إلقاء القنابل علينا.. يا مخرب، اذهب إلى غزة». فمه كان قريبا من وجهي ولغة جسده تقول بأنه سيضرب. كان يصرخ ويشتم ويهدد وكنت ابتعد عنه بحذر وبهدوء ولا أريد أن أسبب الذعر للأطفال. كان في المكان بعض الزبائن لكنهم وقفوا ولم يتدخلوا. كانت على وجوههم علامات استغراب وخوف. حاولت البائعة اليهودية أن تشرح له أنني كنت عندها قبله، فصرخ عليها بكلمات نابية؛ ثم نظر نحوي وكرر تهديداته لي. ابتعدت عنه ونظرت نحو من كانوا هناك وقلت لهم: «هذه هي الفاشية وهؤلاء قطعانها، سوائب الموت»، وتركنا المكان بهدوء. عدنا إلى البيت سالمين، أو ربما ليس تماما؛ فنحن الكبار كنا مستفَزّين حتى العجز ونتنفس الوجع بصمت. نظرت إلى وجوه أحفادي فكانت صافيه كالبراءة، لكنني خفت أن أنظر في عيونهم، ففي العيون يختبئ الخوف وتمطر الدهشة. رغم الغضب الذي كان يغلي في صدري كنت فرحا لأنني نجحت بالانسحاب راضيا بهزيمتي المعنوية وبعودتنا إلى البيت أحياء وكاملين، فقد كان ممكنا أن يهجم ويعتدي عليّ جسديا.. وممكنا أن يسقط من يدي حفيدي.. وممكنا أن أسقط أنا مصابا.. وممكنا أن يسقط هو وممكنا أن أموت وممكنا أن يموت. عدت فرحا لأنني كنت أنا الذي هناك وليس واحدا من أولادي أو أقربائي الشباب، لأنني أعرف أنهم لم يروضوا مجسات الغضب لديهم، كما فعل المشيب بي.
كنا نلعب مع الأحفاد وكنت أتذكر نقاشاتي مع بعض الأصدقاء حول كيف عرّف المفكرون والعلماء والمثقفون الفاشية ومن هو الفاشي؟ كنت أتمنى لو كان أصدقائي اليوم معي عندما قابلت الفاشية بلحمها وبشحمها، وكاد واحد فاشي أن يصطاد فريسته.. فالفاشية هكذا هي، يمكن أن تكون في كل مكان ومتفشّية وبين الأغنياء والفقراء، على حد سواء، أو بين المتعلمين أو الاغبياء، وأن تظهر في حيّك حيث تسكن مع عائلتك بحب وبروتينية وبطمأنينة. وقد تجدك أو تلاحقك الفاشية وأنت تطعم صغارك تحت دارك أو على ناصية الشارع، أو وأنت تركن سيارتك، أو في الصيدلية وأنت تشتري حبة دواء كي تنام. والفاشي هو مخلوق على شكل إنسان قد يكون أشقر وأزرق العينين ويتحدث بالألمانية أو الفرنسية، أو كائنا شرقيا أسمر يربي كرشه ويتحدث بعضلاته ويصلي بالعبرية لربه ويركع، والعصي والمسدسات إلى جانبه، لزعيمه، وقد يكون الفاشي جارك أو سائق التاكسي أو الطبيب المناوب في عيادة حيك أو المحاضر الذي يعلمك تاريخ أوروبا الحديث. كنت أفكر أن حيفا ما زالت حمراء كما عهدناها، لكنها هكذا يبدو اصبحت بلد التآخي الكاذب. وكنت أحسب أنني اتجول في حي آمن أو «حي معقم» ومنيع لن تخترقه الفيروسات القاتلة، وكنا نحتضن أحفادنا الأطفال الصغار الثلاثة بسعادة، ونمشي بفرح أعمى حتى عثرنا بما كان يخبئه لنا العدم، ونجونا صدفة وتعلمت أكبادنا ماذا تعني الفاشية بالضبط لمواطن عربي في إسرائيل.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية