ينجح نظام دمشق في جذب (التدخل الدولي) إلى عقْر داره، والمشرق العربي هل يسرّه أنه يستعيد سمعته التقليدية باعتباره أرض البراكين الموقوتة، تلك التي تنفجر اليوم أو تلك التي تؤجل انفجارها إلى الغد، لكن الثابت في مقدرات هذا الوطن الجريح أن لغات النيران وحدها هي المتبادلة بين الأيدي كلما أعياها التراشق بالألفاظ الملغومة ما بين الألسن.
هذا المشرق العربي باتت حياته اليومية مرتهنة بوقائع المهالك الجماعية المباشرة أو بأحداثها الكئيبة المتواترة. فليس ثمة وطن تحتله جبهات قتال من كل نوع، يمكنه أن ينشئ مجتمعاً سوياً على الأقل، وليس مجتمعاً للديمقراطية والحرية، كما يحلم شبابه الصاعد. فالرحلة نحو هكذا مجتمع لا تزال تحبو دون خطواتها الأولى؛ ومن يثابر على التمسك بفلسفة هذه الرحلة، لن يكون سوى ذلك المواطن العادي الذي تلقاه في شوارع المدن الصامتة أو الصاخبة، طوائف المصدقين لحتمية الديمقراطية ليسوا هم الفاعلين للأسف في مجريات الجبهات المفتوحة.. هم من صنف البشر المهمشين غالباً، أصواتهم ضعيفة ومتناثرة تحت أزيز الرصاص المتصاعد فوق رؤوسهم، لكن أمكنة الهوامش وسكانها ليسوا منسحبين من خارطة الواقع بقدر ماهي الهوامش تؤطر النصوص تحاصرها بمراجعها الأصلية.
ما نقوله أن ‘الربيع العربي’ ليس مضطراً أن يتقبل كل حراك جماهيري رافع لاسمه أو مردّداً لشعاراته؛ ليست كل الساحات الدموية هي من صنع شريعته التي لم يكتبها أحد بعد، ولم تصدر بها وثائق ممهورة بتواقيع شرفاء الثوار وحدهم، بل ربما تحول الربيع العربي أحياناً كثيرة إلى مجرد هامش مطرود ومطارد من قبل محازبيه المدعين أنفسهم. بل هو الربيع العربي فارسٌ هُمام، فريدُ عصره وزمانه، وقد تتخاطف موائدُ اللئام حضوره في كل صقْع تسود فيه شائعاته أكثر من أفعاله، وفي هذا الخضم الهائل من كل المقتلات والمهالك سوف يمسي الربيع هو الغريب الأوحد، الميّتم بين أهله المدّعين لقرابته. وفي المنعطف الراهن حيثما في الصميم من خضم الأهوال هذا قد ينفجر بركانُ جهنمٍ جديد، وفريد نوعه ولا شك. فقد نجح نظام الاستبداد الدمشقي أخيراً في جذب وحش التدخل الدولي إلى عقر داره، إنه المنعطف الذي سيجعل حقاً كل ما سيأتي به وما يليه لن يشبه في شيء مما كان سبقه.
مرة أخرى سوف ينخفض صوت ‘الربيع’ الداعي إلى الثورات، ليعلن ‘التدخل’. أن أصوات الحروب هي المدوية بعد اليوم، ما يعنيه التدخل هو أنه لا يأتي معاقباً لمجرم استثنائي في تاريخ نوع الإجرام الشمولي بحق الإنسانية، بل ربما جاء ناشراً معمماً لأسباب الجرائم العظمى ضد الإنسانية، في كل ساحة دموية قائمة أو آتية.
هل أصبح من يسمى بالمجتمع الدولي عاجزاً عن معاقبة مجرم إلا باشعال حرب أو حروب أخرى، فلو كان هذا المجتمع أميناً ومؤتمناً فعلاً على شريعة العدالة أصلاً، ما كان لهذه الجريمة أن يستفحل وباؤها، أن يوغل الاستبداد الدمشقي في ارتكاب فظائع المجازر، جاعلاً منها إيقاعاً ثابتاً لممارسته حرب الإبادة الجماعية لشعبه وحضارة بلده.
أما كان باستطاعة المجتمع الدولي أن يُحيل مجرم العصر على المحكمة الدولية، هو وأعوانه وأدواته من الجلادين، أما كان الرأي العام العالمي، وليس الغربي فقط، سوف يقدم كل مساندة ومؤازرة لمسيرة هذه المحكمة التي قلما تركتها الدول الكبرى تمارس نشاطها القانوني ضد طواغيت السياسة العالمية، تطهر هذه السياسة من البربرية المستدامة، والمحمية بأعلى الدبلوماسيات المريبة.
فهل لم تعد لدى ضمائر الغرب من وسائل التكفير عن خيارات التسامح مع قتلة الشعوب، الا بقتل المزيد من الناس.. فالتدخل العسكري مهما ادعى أصحابه كونه محدداً ومنظماً، فإنه لا بد من أن يكون له قتلاه كذلك، بل لا بد أن تكون له تداعياته السلبية التي لن تتوقف أضرارُها على النظام وأهله فحسب، والحقيقة فإن أية مناقشة هادئة لمفاعيل هذه الضربة (المحدودة) ستبرز مدى تبعاتها السلبية التي ستتجاوز بعيداً مساحتها الأصلية بشرياً وجغرافياً. فإن عودة ‘الحرب الدولية’ إلى الشام، إلى صميم المشرق العربي، لن تكون ظاهرة عارضة، مهما كانت نتائجها المباشرة، سواء كان تأثيرها في نظام دمشق محدوداً أو متواتراً، فالضربة الأمريكية/الدولية سوف تهز كل المعادلات السياسية القائمة، وما مظاهر الحيرة والارتباك في الجو الأمريكي والأوروبي التي تسبق القرار إلا دليل العجز الواضح لدى كبار المسؤولين عن الاتفاق ليس فقط حول درجة الضربة، والغاية الفورية المترتبة عليها، بل لعل الخلاف هو حول السيناريو الأبعد والأشمل لمتغيرات المنطقة، وليست لسورية وحدها، بعد هذه (الغزْوة) الحربية الجديدة للغرب؛ فالاحتمالات كثيرة ومتشعبة، وما يزيد في هذا القلق الاستراتيجي هو أن العقل الغربي لم يحسم أمره بعد في شأن بقاء الأسد ونظامه. لن تتوقف الأزمة إذن عند أو بعد إنجاز الضربة الصاروخية. هذا هو الحد الأدنى الذي تتفق حوله آراء الدول الغربية لكنها من ثمَّ تختلف في كل اتجاه؛ لا بد من الضربة لكن ما هي نوعيتها، وما الغاية الفعلية منها، تلك هي الأحجية المسكوت عنها في ضمائر هذه الدبلوماسية الدولية، هل هذه الضربة تتمتع بخصائص العقوبة القانونية المشروعة، وإن لم تصدر عن محكمة عالمية معروفة، ومع ذلك قد يقال أن الضربة اكتسبت مشروعيتها كأمر واقع فرضه أوسع رأي عام دولي شعبي أكثر منه رسمياً أو حكومياً، وقد استفزته فظاعة الجريمة غير المسبوقة. فلم يحدث في تاريخ الإجرام السياسي والأهلي أن حاكماً يقرر عن سابق تصور وتصميم تسميم مئات من أطفال شعبه، مع معرفة الجميع أن تلك الجريمة النكراء جاءت ذروةً لمسلسل من فظائع الإبادات الجماعية التي قضت على عشرات الألوف من الأبرياء المدنيين، لكن هؤلاء الضحايا لو كان لهم أن ينطقوا لأعلنوا رفضهم القاطع أن تعاقب سوريا كلها باسم معاقبة الجلاد الأكبر؛ وذلك انتقاماً لنكبتهم.
رغم هذه المشروعية الإنسانية الشاملة التي يمكن للضربة العسكرية أن تدعيها، فإن الرأي العام الدولي الغاضب كان يفضل أن تصدر هذه الضربة عن محكمة دولية كعقوبة؛ بل كمدخل أمني للعقوبة العادلة الأصلية، وهي القبض على المجرم المنتهك الأول لجوهر القانون الدولي.
هكذا يمكن لضمير الإنسانية أن يستعيد طمأنينته الأخلاقية قليلاً: عندما تصان حرمة القانون الدولي من أذَيّات النفاق السياسي المتعامل بمصطلحات المصالح للدول الكبرى.
ليس المجتمع الدولي (الحقيقي) مضطراً أن يشن حرباً على بلد من أجل أن يعاقب جلاده، وليس أبداً من أجل تحرير البلد من سلطانه، لا شك أن الأخطر في غابة هذه التهويلات التي تمارسها كل الأطراف ضد بعضها، هو أن جلاد السم الكيميائي يعتبر ضمناً أو ترميزاً أن حفلات التسميم التي نفذها على مراحل طيلة الأشهر السابقة، ليست سوى تمارين أولية وقد توَّجها بحفلة التسميم الكبرى لأطفال (الغوطة) ونسائها، وأن كل هذه الحلقات لن تكون سوى مادة التهديد الأعظم الذي يعده ضد الجميع، باستخدام الحرب الكيمياء في أوسع نطاق، ضد شعبه أولاً، وربما سيتجرأ كذلك على ضرب الدول المجاورة. هذا التهديد قد يكون تحقيقه مستحيلاً لأسباب كثيرة، لكنه واقعي جداً من حيث أنه يتمتع بكل النوايا السيئة في ضمائر أصحابه.
أليس من المحزن حقاً أن يتابع كبار ساسة العالم الغربي سجْنَ عقولهم في منطقة ردود الفعل إزاء أهم الأحداث دون أن تكون لهم الإرادة الفورية لاستعادة زمام الأمور، حتى عندما لم يتبق لديهم سوى وسيلة الحروب يشتونها على الشعوب المستضعفة للحفاظ على رواسب مصالحهم كما يدعون، فإنهم لن يكونوا واثقين من إمكان سيطرتهم على نتائجها، وليست مواقف كبارهم من ثورات الربيع العربي، ومن المذبحة السورية المستدامة خاصة، سوى أدلة، فاقعة ليس على تخليهم عن اصطناع سياسة المبادئ فحسب، بل على عجزهم عن القيام بأعباء مصطلحهم المفضّل حول (السياسة الواقعية).
هذا السلوك الدولي الذي استهلك صولاته وجولاته العنترية الغابرة، بات مجرد حركات متأرجحة بين الإقدام والنكوص، فلم يستطع أوباما أن يحشد حلفاء أمريكا التقليديين وراء مشروعه العسكري التأديبي ضد حكام دمشق، فلقد تخلّفت معظم دول الاتحاد الأوروبي عن دعم الزعامة الأمريكية ماعدا دولة فرنسا التي يبدو أن قراراتها الرئاسية تسابق ديمقراطية مجالسها النيابية. فهل ستذهب أمريكا إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط وهي شبه وحيدة هذه المرة ما خلا بعض أتباعها من دول الشرق الأوسط؟ من الواضح أن أوباما قد قطع على نفسه طريق الرجعة أو التراجع، والمقتلة الجديدة في سورية أمست واقعة لا محالة، لأول مرة لن تكون مقتلة أسدية، بل أمريكية أوبامية. فقد تعددت عناوين المقتلات الجماعية في هذا البلد العربي المنكوب وكان حصادها دائماً واحداً هو الموت، وضحاياها المجهولون هم شعب المدنيين الأبرياء.
ليت أوباما يمارس تردده المعتاد، لن يكون تراجعه عن ارتكاب المعصية القانونية والأخلاقية الجديدة، لن يكون تراجعه هزيمة سياسية بقدر ما سيكون انتصاراً أخلاقياً حتى على السياسة الضالة نفسها، فليسلمْ المقتلة الرهيبة كقضية عدالة كبرى إلى مراجعها الشرعيين. فليخرج العدالة الدولية من متاهاتها الدبلوماسية، ليطلق حرية المحكمة الدولية في الممارسة والمقاضاة الشرعية لكن… هل هناك رئيس أمريكي يجرؤ يوماً على منح المحكمة الدولية مقعداً يعلو مرتبةً واحدة على الأقل ما فوق مقعد كل رئاسة دولانية أخرى.
لو تحققت ذات يوم تلك الحرية الشرعية للمحكمة الدولية هل يبقى لمركّب الاستبداد/الاستغلال ثمة دول وسلاطين تعيث فساداً في إنسانية هذا العالم البائس. هل هذا هو المدخل الأصعب نحو مصطلح ‘العالم الأفضل عندما تصبح العدالة سيدةً على قرارات الحرب والسلم مابين دول، قادرة على اصطياد وحوش الأنظمة الاستبدادية وشعوبها المناضلة.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس