لماذا لم تَكْذبي؟

حجم الخط
0

غضبٌ شديدٌ في مكتب رئيس الحكومة ووزارة الخارجية، ولدى جمهرة المحللين في مختلف القنوات الإسرائيلية المجندين في حالة الحرب، لتحليل الحرام وتحريم الحلال، الكل غاضب على العائلة والرهينة المُسِنة المحررة، وعلى إدارة مستشفى إيخلوف في تل أبيب حيثُ أقامت فيه عائلة المُسنة مؤتمرها الصحافي. «لماذا تركتموها تحكي للإعلام»! «إنها عملية إرهابية إعلامية كبيرة»، «كارثة إعلامية» «حماس استغلت امرأة مسنة في محاولة لتحسين صورتها»» إنه يريد تخليص نفسه من صورة «داعش» التي التصقت به»، هكذا يصفون حديث الرهينة المحررة السيدة يوخيفد ليفشتس للإعلام.
حسناً، هذا لأن حديث المحررة من الأسر للصحافة بأنهم عاملوها بصورة حسنة، وأنهم قدموا للرهائن طعاماً مما هم يأكلون «خبز ولبنة وخيار»، وقدموا لها ما تحتاجه للحفاظ على نظافتها، وفحَصها طبيب مرة كل يومين، وتحدث حراسُها معها في شتى المواضيع، وعندما أرادوا الحديث معها في السياسة رفضت، فلم يفرضوا عليها حديثاً في السياسة. «كانوا هم الذين ينظفون الغرفة التي أقامت فيها مع زميلتها المحررة الأخرى».

جُن جنونهم لأنها ظهرت أثناء تسليمها للصليب الأحمر على معبر رفح، وهي تمد يدَها مودعة لتصافح الشاب الملثم الذي كان حارساً عليها، لأنها نطَقت بالحقيقة أمام العالم

جُن جنونهم لأنها ظهرت أثناء تسليمها للصليب الأحمر على معبر رفح، وهي تمد يدَها مودعة لتصافح الشاب الملثم الذي كان حارساً عليها، هذه التصريحات وهذا المشهد اعتُبر «عملية إرهابية إعلامية»، لأنها نطَقت بالحقيقة أمام العالم، كان على مسنة في الخامسة والثمانين من عمرها أن تكذب على طريقة نتنياهو وجو بايدن كي يرضوا عنها، كان عليها أن تمنح كذب نتنياهو وبايدن مصداقية أو أن تصمت! كان عليها أن تدعي بأنها تعثرت برؤوس مقطوعة، وأن أحدهم كان يدخل الغرفة يحمل سيفاً ويهددها بالذبح والحَرْق! لقد نسَفَتْ هذه السيدة النبيلة دعاية تناقلها زعماء دول عظمى عن لسان من يطلق عليه معظم أبناء شعبِه الكذاب والنصاب، نسفت دعاية أراد قادة الغرب أن يصدقوها كي يخدعوا شعوبهم بها، كي يحجبوا عن شعوبهم دماء أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزة، ردد جو بايدن كذبة نتنياهو دون أن يرمش له جفن، فما بني على الكذب يجب أن يستمر في الكذب، وكان عليه أن يقول بأن قصف مستشفى المعمداني حدث نتيجة صاروخ «من الجهة الأخرى»، وأن البنتاغون أعلمه في ذلك، كان عليه أن يستبيح بوضاعة وخِسة عنصرية دماء عشرات آلاف أطفال ونساء ومسني قطاع غزة، مثلما استباح سلفه غير الصالح دماء العراقيين ودماء شعوب كثيرة وصولاً حتى الهنود الحُمُر. قادةُ الغرب يجبُ أن يصدقوا ماكنة الكذب التي يطلقها نتنياهو كي يبرروا دعمهم لـ»حرب الحضارة على الهمجية»! الكذب كان وسوف يستمر، فالكذب ركن أساسي مِن أركان سياسة الاحتلال، لا يوجد احتلال من دون كذب، لا يوجد احتلال في التاريخ لم يتهم المقاومين بالإرهاب! الحقيقة المجردة لا تخدم المعتدين فيلجأون مُضْطرين إلى الكذب. منذ تأسسَ هذا الكيان وهو يكيد المكائد، ويكذب لتبرير جرائمه، لمَنْع الشعب الفلسطيني مِن نَيْل حقوقه التي أقرتها الشرعية الدولية، هذه الشرعية التي لا تطبق إلا على الضعفاء، وفي المواقع التي تخدم مصالح الدول العظمى.
رئيس الدولة الذي يُعتبر شخصية «حمائمية» على الأقل في مفاهيم السياسة الإسرائيلية، تجند هو أيضا للكذب، فحمل كُراسة في لقاء لفضائية «سكاي نيوز» زعم فيها أنها تشرح كيفية إعداد غاز السيانيد ملمحا «كما يبدو أن المخربين» حسب تعبيره، كانوا يستعدون لإعداد غاز سام محرم دولياً! في تلميح إلى أسلحة الدمار الشامل. هذا كي يبرر هو الآخر مَحْرقة قطاع غزة، طبعاً هو ليس غبياً، ويعرف أن الكذبة سوف تنفضح خلال أيام، كما حصل فعلاً، ولكنها فعلت فعلها في هذه الأثناء لدى قطاع من أولئك المصرين على تصديق الأكاذيب والروايات الإسرائيلية لتبرير جرائم الحرب التي يقترفها الاحتلال على مدار الساعة. شهادة السيدة يوخيفد ليفشتس نسفت فرية الإعلام الإسرائيلي، بأن حماس هي «داعش» و»القاعدة»، بل ذهب الكذاب الأكبر جو بايدن للادعاء، بأن «داعش» هي لعبة أطفال مقارنة بحماس! وزير خارجية إسرائيل إيلي كوهين رفض حقيقة بسيطة يراها ويسمعها العالم، وهو ما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش بأن هجمة حماس لم تأت من فراغ! وأن الفلسطينيين يعيشون تحت احتلال عمرُه ستة وخمسون عاماً، بهذا تجاوز أنطونيو غوتيريتش الخطوط الحمر، وحذت بإيلي كوهين إلى أن يضغط على أهالي الرهائن والأسرى لإلغاء لقاء كان مقرراً معَه في نيويورك، ورغم ذلك التقى بعضهم به، على أمل المساعدة في إطلاق سراح أبناء أسرهم. كوهين تساءل مصعوقاً مخاطباً غوتيريتش «في أي عالم تعيش أنت؟». كوهين يعيش في وهمِ بأن الضفة الغربية التي أصبحت ممتلئة بالمستوطنين لم تعد أرضاً محتلة، وأن حصار قطاع غزة منذ سبعة عشر عاماً لا يعني شيئاً، ويجب أن لا يعني شيئاً، ويجبْ عزل عملية حماس في السابع من أكتوبر الجاري عن سياقها التاريخي، فهي لم تحدث إلا لأجل قتل اليهود لكونهم يهوداً. يريد أن يملي على العالم بأن يرى ما حدث وما يحدث بمنظاره ورؤيته هو، ومن لا يفعل فهو يصطف تلقائياً إلى جانب الإرهاب واللاسامية، وكتب على صفحته في تويتر «بعد السابع من أكتوبر، لا مكان لموقفٍ متوازن، يجب مَحْو حماس»! إذن لا للتوازن، والكذب واجِب.
وعلق أنصار نتنياهو على مصافحة السيدة يوخيفد للرجل الملثم من مقاتلي حماس بالشتائم عليها ووصفها بأنها يسارية (اليسار تهمة في إسرائيل)، وكان يجب أن تبقى لدى حماس، فهناك من هم أولى منها بأن يطلق سراحهم. اعتبر أكثر المحللين أن ما حدث مع هذه السيدة، دليلٌ آخر على الفوضى الشاملة التي ميزت ردة فعل هذه الحكومة وأذرعها على ما حدث منذ بداية الحرب، وأن التنسيق مفقود بين مختلف المسؤولين، وأنه ما كان عليهم السماح لهذه السيدة بالخروج إلى الإعلام، أو إذا كان لا بد من خروجها، فكان يجب توجيهها بماذا عليها أن تتحدث وماذا عليها أن تكتُم، باختصار عليها أن تكذبْ كي يرضوا عنها، هذا حال رهينة جرى إطلاق سراحها!
حتى البعض القليل الذي تعاطف معها برر حديثها بأنها ضحية لمتلازمة ستوكهولم، ويجب أن لا ننسى بأن زوجها ما زال رهينة، وعليها أن تتحدث بهذه الإيجابية تجاه من يحتجزونه. المقاومة نجحت إعلامياً في هذه المبادرة، وما سبقها من إطلاق سراح مدنيين، ومن المتوقع أن تستمر في إطلاق سراح المدنيين، خصوصاً من السيدات والمسنين والأطفال إسرائيليين وأجانب يحملون الجنسيتين، عِلماً أن هذه الحكومة الإجرامية ترفض هذه المبادرة لأنها تعري كذبها وتفضح من يصادقون على كذبها من قادة «العالم الحُر» وغير الحر.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية