لماذا تكرهوننا إلى هذه الدرجة؟

كبيرا جدا صار حجم النفاق الغربي في التعامل مع قضايانا، وما يصاحب كل ذلك من انفضاح مستفز لاهتزاز المعايير والقيم وعدم احترام إنسانية هذا «الآخر» بل والتعامل معه على أساس أنه من طينة أخرى غير جديرة بالحرية أو الاحترام.
الأمر ليس جديدا بالتأكيد، لكنه في ازدياد حتى وصل مع ما يجري في غزة، ليس فقط إلى الكذب والتلفيق، في ما يتعلق بما حصل فعلا يوم 7 أكتوبر، وإنما مضى إلى ازدراء وتجاهل الحكومات الغربية وسياسييها لعذابات المدنيين الفلسطينيين وتقتيل آلة الحرب الإسرائيلية للأطفال والنساء وهدم البيوت كاملة على رأس ساكنيها والتهديد بقصف المستشفيات واستهداف سيارات الإسعاف، وتهجير السكان في «نكبة» جديدة وقتل الصحافيين وتعتيم وسائل الإعلام الغربية لكل ذلك وكأن هؤلاء ليسوا بشرا، وهو ما قاله بكل وقاحة وزير الدفاع الإسرائيلي قبل أيام.
حتى ما كانت تقوله الدول الغربية سابقا من ضرورة حماية المدنيين في كلا الجانبين، وضرورة ضبط النفس، بمساواة متعسفة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، بين المعتدي والضحية المحاصر منذ 16 عاما في أكبر سجن مفتوح في العالم، غاب تماما ليتحوّل الآن إلى تبرير كامل ومفتوح وبلا شروط لكل ما تقوم به إسرائيل مقابل احتقار أي خسائر فلسطينية مهما كانت، وصلت برئيس الوزراء البريطاني إلى القول إنه يرفض المساواة بين الضحايا المدنيين الإسرائيليين والضحايا المدنيين الفلسطينيين.
وفي الجانب الأمريكي، اتضح بجلاء أكبر الإصرار على الكذب والتضليل فبعد حديث الرئيس بايدن عن صور ذبح أطفال إسرائيليين، تراجع البيت الأبيض ليقول إنه لم يتحقق بعد من ذلك وإن الكلام اعتمد على الرواية الإسرائيلية، جاء أنتوني بلينكن، الذي زار إسرائيل بصفته يهوديا كما قال، ليقول إنه اطلع على صور في هذا الشأن لكن العالم لم ير منها شيئا، ثم يأتي جون كيربي ليقول إنه لا يرى من سبب يجعله يشك في ما قاله نتنياهو، هكذا بكل بساطة!!

لم يعد من حق الأمريكيين أو غيرهم أن يتساءلوا «لماذا يكرهوننا» بل بات من حقنا نحن أن نطرح بقوة هذا التساؤل «لماذا تكرهوننا أنتم إلى هذه الدرجة»؟

لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن دولا عريقة في الديمقراطية حاولت بشتى الطرق منع تنظيم مظاهرات تضامن مع الفلسطينيين ورفع الأعلام الفلسطينية، ثم قام بعضها الآخر بتفريقها واعتقال المشاركين فيها كما حصل في فرنسا وألمانيا، وحين خرجت مظاهرة ضخمة كما حدث في لندن حاول الإعلام البريطاني، ومنه «البي بي سي» للمفارقة، التقليل من شأنها وتصويرها تضليلا على أنها مؤيدة لحماس، مما دعاها مكرهة إلى الاعتذار لاحقا.
ترافق ذلك مع حملة إعلامية شرسة في كل وسائل الإعلام الغربية تقريبا لا تعرف سوى التضامن مع إسرائيل وطمس كل ما تفعله في غزة، ورفض وضع سياق للحرب الحالية وكأنها انطلقت بعدوان غادر من «دولة غزة» على «دولة إسرائيل» دون مقدمات بعد سنوات من الهدوء وحسن الجوار، فضلا عن معاقبة أو طرد من يبدي عكس ذلك، كما حدث في أكثر من وسيلة إعلام دولية مثل ما حصل مع أحد مذيعي قناة التلفزيون الأمريكية MSNBC أو رسام الكاريكاتور في صحيفة «الغارديان» البريطانية.
حتى العرب المقيمون في أمريكا وكندا وأوروبا باتوا يشعرون بالخوف من مجرد التضامن مع الفلسطينيين، ووصل الأمر إلى قتل وحشي لطفل ذي ستة أعوام في أمريكا في جريمة كراهية وحشية لمجرد أنه فلسطيني، كما صار التعبير عن هذا التضامن في مواقع التواصل محفوفا بالمخاطر في دول تقول إنها تقدس حرية الرأي والتعبير لكنه يقابل بشكل عام بالحجب بل ويُحسب فورا على أنه معاداة للسامية.
كل هذا الهيجان ضد الفلسطينيين، بعقلية استعمارية وعنصرية بيضاء كريهة، وهذا التعاطف الأعمى مع الإسرائيليين بلا روية ولا بصيرة، والذي لم تشذ عنه سوى تصريحات شجاعة لرئيس الوزراء النرويجي ووزيرة خارجيته ولوزيرة إسبانية، أدّى عمليا في الماضي، ويؤدّي هذه المرة أيضا، وسيؤدي في المستقبل حتما وبشكل أقوى ونهائي إلى نفض الرأي العام العربي والمسلم، دعك من حكوماتهم فهي لم تعد تمثلهم إلا في حالات نادرة، من هذا الغرب وقيمه وكل ما تغنى به لعقود طويلة من قيم حقوق الإنسان قال إنها كونية، غرب فضحته ازدواجية حرب أوكرانيا ثم جاءت حرب غزة لتعرّيه بالكامل، غرب انهارت مرجعيته الأخلاقية تقريبا، لولا بعض قواه المجتمعية الحية، غرب جعل المنظومة الحقوقية الدولية بلا قيمة أو تكاد، مما سيوسّع نهائيا الخندق بين العرب والغرب، الذي لم يعد فقط خندق سوء تفاهم، وسيقود حتما إلى تسيّد جيل جديد مختلف تماما، وبدأ في الظهور، لينفض يده بالكامل من التسوية السياسية، لصالح القوة التي تفرض نفسها على الجميع. سيرحل القادة الفلسطينيون والعرب الرسميون الحاليون يوما ولن تجد واشنطن وحلفاؤها بعدهم من يمكن التفاوض معه أو تدجينه أو تخويفه.
لم يعد من حق الأمريكيين أو غيرهم أن يتساءلوا «لماذا يكرهوننا» بل بات من حقنا نحن أن نطرح بقوة هذا التساؤل «لماذا تكرهوننا أنتم إلى هذه الدرجة»؟!!

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية