لقاء بايدن وبوتين: تخفيف حدة الصراع في عالم تتجاذبه الطموحات المقموعة

مرحلة الحرب الباردة بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، مثّلت صراعا مفتوحا على المستوى الدولي. ومازالت مسارات المنافسة، وطموح الهيمنة تنهل من سجلات تلك الحقبة، ويتجدّد الصراع على المصالح والأهداف والأيديولوجيا والاستراتيجيات الكبرى.
وقد انعكس ذلك على السياسة الدولية والمنظمات الأممية بهياكلها المختلفة. وإن لم تؤدّ إلى مواجهة مسلحة مباشرة بين القوى العظمى، فإنّ الخلاف الدبلوماسي الراهن، والتحدي الاستراتيجي والحرب الاقتصادية، قد استنزفت الكثير من الإمكانات المالية والمادية، من جهة ميزانيات الدفاع وسباق التسلح.
وتأتي القمّة المرتقبة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف يوم 16 يونيو لبحث جملة من الملفات العالقة التي تشوبها خلافات. ومن المتوقّع أن يناقش الرئيسان آفاق تطوير العلاقات الثنائية، وقضايا الاستقرار الاستراتيجي والدفاع والأمن القومي. فضلا عن القضايا الحيوية بما في ذلك التعاون في مكافحة جائحة كورونا، وتسوية النزاعات الإقليمية. فالتنافس الجيوسياسي بين موسكو وواشنطن، والصراع القائم على عدد من قضايا الشرق الأوسط ودول الجوار الروسي، جعل المصالح الحيوية، السياسية والأمنية والاقتصادية متعددة، وحجم التجاذبات يتصاعد. ومن الجيد أن يؤكد الجانبان رغبتهما المشتركة في التعاون بشأن قضايا الاستقرار العالمي، رغم الخلافات السياسية المتجذرة بينهما. وخيار الحوار وفتح خط اتصال بين الزعيمين، رغم تدنّي سقف التوقعات حول ما يمكن أن ينتج عن القمة، يعدّ خطوة إيجابية، بالحد الأدنى لضمان استقرار العلاقات بين بلديهما، والتخفيف من حدة التصريحات المتبادلة، التي تسببت عمليا في أزمة طرد الدبلوماسيين، وفرض البيت الأبيض سلسلة من العقوبات على روسيا في الأشهر الأخيرة، بسبب اعتقال وسجن الناشط الروسي المعارض أليكسي نافالني، وتدخل موسكو في الانتخابات الأمريكية عام 2016، وهجوم سولارويندز الإلكتروني.
يبحث الطرفان بحذر عن طرق لتطبيع العلاقات المستقبلية.. وعن سبل لتقليص حجم الخلافات، وتجنّب التصعيد، فالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانا يستخدمان الأمم المتحدة، من أجل إدارة مخاطر اشتعال حرب نووية، رغم وصول الصراع بينهما زمن الحرب الباردة إلى حافة المواجهة، في أكثر من مناسبة، لعل أبرزها أزمة الصواريخ الكوبية. والآن يبدو أنّ التفاهمات الشخصية بين الرئيسين هي التي ستخفف من حدة الخلاف، والتصعيد الكلامي المنفلت. وقد يتغيّر الخطاب شديد اللهجة، الذي رافق بايدن منذ وصوله إلى السلطة، وإن ظلّت الأسباب الجيوسياسية المتعلّقة بنزاعات الحدود السياسية، والسيطرة على المواقع ذات الأهمية الاستراتيجية، تحظى باهتمام بالغ، وتؤثّر في مسار النظام الدولي سلما أو حربا، فإنّ الترابط الاقتصادي بين أمريكا والصين، والتفاهمات البينية بين واشنطن وموسكو بشأن أمن أوروبا ودول البلقان، وحوض البلطيق وسباق التسلّح، وقضايا النزاع العالقة في الشرق الأوسط، قد تقلّص من دائرة النزاع السياسي وديناميته المفرطة لكنها لن تنهيه تماما. وهناك مؤشرات من شأنها الحسم بأنّ هيكل النظام العالمي قد صار قائما على تعدّد الأقطاب، ولم تعد هناك قوة واحدة تتميز بقدرات استثنائية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا. والإدارة الأمريكية تعاني منذ سنوات من وطأة التوفيق بين متطلبات قيادة النظام العالمي والتزاماتها في الداخل الأمريكي، الذي تفاقم بسبب خيبات الإدارة الجمهورية السابقة، ومحاولات واشنطن والدول الأوروبية دعم الشخصيات المعارضة للنظام الروسي، والتنديد بتجاوزات الحكومة الصينية ضد الإيغور وغيرهم من الأقليات، يمكن أن يدفع موسكو وبكين لتحسين آليات الحكم الداخلي، وعدم حصر تحالفاتهما مع الدول التي يراها الغرب غير ديمقراطية، كإيران وكوريا الشمالية على سبيل المثال. وبمقدورهما إنتاج بديل قد يكون أكثر جاذبية حتى لمواطني الدول الديمقراطية. مع أنّ روسيا والصين كثيرا ما تظهران رابطة الديمقراطيات وكأنها غير ذات قيمة، في إشارة إلى التدخلات الخارجية ومنطق الهيمنة، وتجاوز القانون الدولي، وأزمة النظام الليبرالي المترنّح، الذي راهنت عليه الدول الغربية وفي مقدمتها واشنطن.

طالما ظلت سياسة القوة مسيطرة على العلاقات الدولية، لتتوارى معها المعايير الأخلاقية، فلا فرق بين تعدد الأقطاب أو ثنائيتها

توسعة المجالات التي يعمل فيها القانون الدولي النافذ من شأنها توفير المناخات لتحسّن العلاقات الدولية، وإن كانت تمضي ضمن عالم خطر ومعقد، كالذي نعيش فيه الآن، حيث تعجز المؤسسات الدولية المتحَكّم فيها، أو التي يتمّ تجاهلها أن تضبط إيقاع الصراع القائم بين الدول العظمى. والأفضل لهذه القوى تجنّب التصعيد الذي يهدد استقرارا العالم. والسلام بينها هو الأمر المنطقي الذي يسهل إبقاء مستقبل الأمن والسلم الدوليين تحت السيطرة، وإن كان لا مفرّ من التنافس الجيوستراتيجي، فمن الجيّد أن يتمّ من خلال براغماتية خالية من المطالبات والابتزاز بالمنح وغيرها من أشكال المساعدات، التي تصادر قرار بعض الدول وسيادتها، وعجز الإدارة الأمريكية عن التغلّب على الانطباع القائل بتخليها عن المعيار الأخلاقي الضروري لممارسة ضبط النفس المسؤول، جعل الكثير من الشعوب ترى في ما تفعله روسيا تحجيما للغطرسة الأمريكية التي أسقطت الأنظمة وهدّمت الدول، كما يرون ذلك، في تطلّع الصين منذ مدة إلى الحصول على منافع استثمار الموارد، بدون أن تتكلّف ثمن الكراهية على المستوى العالمي كقوة استعمارية مثلما هو شأن أمريكا، أو فرنسا وبريطانيا اللتين تحاولان تبييض ماضيهما الاستعماري المشين بدون فائدة. وطالما ظلت سياسة القوة هي المسيطرة على العلاقات الدولية، لتتوارى معها المعايير الأخلاقية، بما فيها المبادئ القانونية التي برّرت وجود الشرعية الدولية، فلا فرق بين تعدد الأقطاب أو ثنائيتها. وما يجب تجاوزه بصورة حتمية في مواجهة الشبكات الأفقية للعلاقات الدولية هو تلك السياسة التي تُرجع كل الخيارات إلى منطق الحرب، لأنّه مع احتدام التنافس، وبموازاة تشابك العلاقات الدولية، بفعل ثورة الاتصالات وقيام شبكات من المصالح بين الدول والشعوب، ازدادت النزاعات الدولية تعقيدا. ومن المرجح أن يظل النظام السياسي العالمي أقل استقرارا في ظل دخول معظم الدول في كتل وأحلاف اقتصادية وأمنية.
النزعة العدوانية بين الدول الكبرى، ساهمت في انعدام الشعور بالأمن على المستويات الإقليمية والدولية كافة، والصراع على النفوذ في تمظهراته السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قد يجرّ المتنافسين إلى الحرب بما تشكله من ذروة التناقض بين الدول وجماعات المصالح، ومثل هذا التعقيد الدولي لا يقابله مع الأسف محددات عربية واضحة، من خلال نظام إقليمي يتفاعل مع النظام العالمي ضمن استراتيجيات مشتركة. والسمة الغالبة على الحالة العربية هي التراجع عن الأهداف المنشودة في التحرر والتنمية والتقدم، في ظل التفاعل السلبي المهيمن على أنماط العلاقات العربية الدولية.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير شقير:

    سياسات السوق الحرة شجعت التفاوتات الجديدة والبحث عن الأوسواق الاستهلاكية سبب نزاع القوى الكبرى. المطلوب تحديد مسار التجانس الدولي والوطني وفق مبادئ سليمة. مقالك رائع ومفيد جدا . شكرا لك ودام عطاء القدس العربي

  2. يقول أحمد:

    ’’ومثل هذا التعقيد الدولي لا يقابله مع الأسف محددات عربية واضحة، من خلال نظام إقليمي يتفاعل مع النظام العالمي ضمن استراتيجيات مشتركة.’’ واقع مؤسف حقيقة والشعوب تدفع فاتورة باهضة الثمن نتيجة غباء الحكام وغياب الاستراتيجيات. هم كالدمى في يد حكام الدول العظمى التي تتنازظع الهيمنة كما فصلت القول أستاذ. فعلا كما سبق وأكدت/ أمريكا تعمل على تفكيك المنافسين الاستراتيجيين والحد من قوتهم لكنها وان استطاعت ذلك مع بريطانيا وغيرها فانها تصطدم بروسيا والصين والأمر صعب وليس باليسير. العالم لم يعد أحادي القطبية
    كل الحب والامتنان. ’ أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة’

إشترك في قائمتنا البريدية