كيف تطور الخط العربي عبر التاريخ؟

مراحل تطورالكتابة عند البشر كانت متداخلة زمانا ومكانا، وأولها كانت «الكتابة التصويرية»، التي تمثلت برسم صور الأشياء الموجودة في بيئة الإنسان، إلا أنها لم تكن تعبرعما يشعر به، فتطورت في مرحلة لاحقة إلى ما عرف بـ «التصويرية الرمزية»، أي أن دلالة الصورة كانت تحمل معنى مختلفا عن مدلولها المادي فقط، لتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة أخرى من التطور، وهي «الكتابة المقطعية»، كالكتابة المسمارية في اللغة الآشورية والبابلية، التي تكونت من مجموعة رموز تشكل مقطعا يعبرعن الأصوات، لتصل بعد ذلك إلى التطور الذي لا يزال البشر يستخدمون اليوم وهو «الأبجدية»، المتمثلة بتخصيص رمز معين ليعبرعن صوت، بدلا من الرموز الكثيرة للتعبير عن مقطع صوتي واحد. والأبجدية هي الكتابة التي اعتمدت عليها اللغة العربية في عصر ما قبل الإسلام، رغم أن النصوص المكتوبة في تلك الحقبة كانت قليلة جدا، حيث سجل العرب فيها عهودهم ومواثيقهم ومواعظهم حفرا ونقشا على الحجارة والجلود.
ومن أشهر الخطوط العربية القديمة خط «المسند» اليماني، الذي سجلت به الكثيرمن وقائع تاريخ اليمن بشكل خاص وتاريخ الشرق الأدنى القديم عموما، تماما كالخط الهيلوغريفي في مصر القديمة، والمسماري في بلاد ما بين النهرين، على الرغم من قلة نقوش المسند المكتشفه، ووفرتها في باطن الأرض.. والباحث في تاريخ تطور الخط العربي الحجازي، الذي نكتب به منذ أكثر من 1400 عام، لا بد أن يتساءل: أي خطوط تطور منها الخط العربي الحجازي الذي كتب به القرآن؟ وكيف تأثرت شبه جزيرة العرب، بالخطوط التي كانت منتشره في المناطق المحيطه بها؟ وما هي المراحل التي مرّ بها تطور هذا الخط؟
واختلف الباحثون في تاريخ اللغات السامية وعلم اللغة المقارن في أصل الخط العربي، بين من يرى أنه تطور من الخط الآرامي، ومن يرى تطوره من الخط النبطي، فيما يعتقد آخرون بأن الخط العربي خرج من رحم خط المسند.. وفي هذه العجالة استعرض ثلاث نظريات لأصحاب كل مدرسة من المدارس الثلاث:

الخط الآرامي

أصحاب هذه النظرية، يفترضون أن الآراميين استخدموا الأبجدية الفينيقية، التي تطورت بدورها من الهيروغليفية المصرية، بتحويلها من صور إلى ابجدية ذات دلالات صوتية، إلى أن أصبحت الأبجدية الفينيقية خطا مستقلا في القرن الثامن قبل الميلاد. ويرى أصحاب هذه الفرضية، أن الخط العربي تطورعن الخط الآرامي مباشرة، بانتقاله من حران (جنوب تركيا) إلى الحيرة في العراق، في بدايات القرن الرابع الميلادي. وأدخل الكتاب العرب في الحيرة التعديلات على الخط الآرامي، شملت تغيير شكل كتابة بعض الحروف ودلالاتها الصوتية، واتصال بعض الحروف ببعض، لينشأ بذلك ما يعرف بـ»خط الجزم» (الذي تتضارب الآراء بشأن أصله، هل تطور عن النبطية أم الآرامية أم المسند)، وهو الخط الذي كتبت به معلقات الشعر العربي في الجاهلية، في القرن السادس الميلادي، والقرآن في القرن السابع الميلادي.

الخط النبطي

يفيد أصحاب هذه النظرية، بأن الخط النبطي هو أيضا ذو أصول آرامية، وظهر كخط عربي مستقل عند الأنباط منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وتطور في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، إلى ما يعرف بين علماء اللغات السامية بـ»الخط النبطي المتأخر»، وكان يكتب بأحرف منحنية ومستديرة. ويرى أصحاب هذه المدرسة أن الخط العربي الحجازي، تطور من الخط النبطي المتأخر، في الفترة ما بين القرنين الثالث والسادس الميلادي، من خلال الاتصال مع بلاد الشام، ويستدلون على هذا بالنقوش والكتابات النبطية، كنقش أم الجمال الأول شمال الأردن (250-270 م)، ونقش النمارة جنوب سوريا المعروف بنقش أمرؤ القيس (328 م).

خط المسند

أصحاب هذه المدرسة يؤكدون أن خط المسند اليمني المنبثق عن الأبجدية «السينائية الأولى»هو أصل الخط العربي، الذي تطور في فترة تعود للقرن التاسع قبل الميلاد. والفرضية التي تقوم عليها هذه النظرية مفادها، أن المسند انتقل من اليمن إلى الأنبار ثم إلى الحيرة في العراق، وأن قبيلة «كندة» كان لها الدورالرئيسي في انتقاله من اليمن إلى الشمال، آخذين بعين الاعتبار أن كندة أقامت مملكتها في وسط الجزيرة العربية في القرن الثاني قبل الميلاد. وكشفت التنقيبات الأثرية في موقع «الفاو» الأثري، الذي كان موقعا لعاصمة مملكة كندة، عن نقوش بخط المسند، كما عثر على نقوش عديدة منه في منطقة الحجر (مدائن صالح) شمال الجزيرة العربية، وفي منطقة «وادي رم» جنوب الأردن. ورغم أن هذه النظرية تنقصها الشواهد المتتبعة لتطور خط المسند، ليصل إلى الخط العربي الحجازي، واتفاق المؤرخين وعلماء الآثار على زواله قبل الإسلام، إلا أن عددا من اللغويين العرب القدماء مثل، ابن دريد وابن جني والجوهري، أفادوا في مؤلفاتهم، بأن «خط الجزم» العربي في الجاهلية، أصله مجزوم (أي مقطوع أو مولد) من خط المسند اليمني.
وفي الملحق الأول من كتابه «تاريخ ابن خلدون» يقول شكيب أرسلان «يذهب علماء الإفرنج، ومنهم المستشرق مورتينز الألماني، إلى أن اليمانيين هم الذين اخترعوا الكتابة، وليس الفينيقيون، كما هو الرأي المشهور، وهو يستدل على رأيه هذا ويقول، إن الفينيقيين إنما بنوا كتابتهم على الكتابة العربية اليمانية، ثم إن اليونانيين أخذوا الكتابة عن الفينيقيين، وعنهم أخذ الرومان».. وقال ابن خلدون في مقدمته، في فصل الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، «ولقد كان الخط العربي بالغا ما بلغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترفه، وهو المسمى بالخط الحميري، وانتقل منها إلى الحيرة، لما كان بها من دولة آل المنذر، نسباء التبابعة في العصبية والمجددين لملك العرب بأرض العراق، ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التتابعة، لقصور ما بين الدولتين، وكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش، في ما ذكر والخط من الصنائع الحضرية. فالقول إن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة، ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال».
وبغض النظر عن الخط الذي تطور منه الخط العربي، سواء أكان النبطي أم المسند، الا أنه ظهر في القرن الثالث بعد الميلاد، ليستقل بعد ذلك تماما في القرنين الخامس والسادس الميلادي، وصولا إلى الإسلام الذي لعب علماء اللغة المسلمين، لاسيما في العهدين الأموي والعباسي، دورا رئيسيا في ضبط الخط العربي للحاجة لقراءة وكتابة القرآن بشكل دقيق، وأضاف العلماء نظام التشكيل بالارتكاز على النحو، ونظام التنقيط للتمييز بين الأحرف المتشابهة بالرسم (كالباء والتاء والثاء والياء)…

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية