كيف تصبح أميرا وتبقى أميرا

حجم الخط
0

درس سار في العلوم السياسية
كيف تصبح أميرا، وتبقى أميرا؟ هذا هو موضوع ميكافيلي، عندما ألفّ في عام 1513 كتابه المعنون ‘الأمير’ وأهداه إلى’لورينزو الثاني دي ميديشي على أمل استعادة منصب أمين الجمهورية، والذي يمكن ترجمته اليوم إلى اللغة المتداولة الحديثة: كيف الوصول إلى السلطة، والاحتفاظ بها؟ إن هذا الطرح، على الرغم من مرور خمسمئة سنة عليه، لم يفقد شيئا من أهميته. لأنه وبكل بساطة، يتحدث عن كيفية الوصول إلى السلطة !. لا شيء أسهل من ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يفضلون الثروة، ويقبلون بأن يكونوا صانعين للسلطة. ولكن الاحتفاظ بها، يتطلب نوعا من الفضيلة، مثلما يحتاج إلى قيادة الرجال وفقا لحاجة زمن، وعصر لا يزالان غير مؤكدين.
إن كتاب ‘الامير’ لنيكولا ميكافيلي، بقدر ما يعتبر نصا مشهورا، بقدر ما اسيء فهمه، فهناك خلف الصفة الميكافيلية مرادف للمكر والغدر. في حين أن هذه الكلمة بالنسبة للمخرج لوران غوتمان، تعتبر ناقصة جدا ازاء فكر ميكافيلي، وذلك لأن نص هذا الأخير ليس بمعاهدة أو سياسة وحشية، وإنما هو موعظة للعمل، وليس استسلاما لإغراءات مثالية. وإذا كانت السياسة هي العمل، فالهدف منها هو تحقيق النجاح. ولكن بأية وسيلة من الوسائل؟ هذا هو السؤال، الذي يواجهه المتدربون الثلاثة في عرض غوتمان. لم يكتف لوران غوتمان بإعداد نص ميكافيلي ‘الامير’ الى المسرح فحسب، وانما قام بإخراجه، وتصميم سينوغرافيته، مثلما قام بنقل افكار ميكافيلي في سياق دورة تدريبية، ومجتمع مصغر، ينخرط فيه المشاركون في نوع من المنافسة التي ينجح فيها من يقوم بأفضل التمارين المقترحة ليكون أميرا، ويبقى أميرا. ثلاثة مرشحين للمشاركة في دورة تدريبية مدفوعة، قواعد اللعبة، هو التنافس في سلسلة من السيناريوهات، الهدف منها التفوق على الآخرين والفوز بالسلطة. وهناك أيضا هيئة من المحلفين، تتألف من فتاة مهمتها الاشراف على تنظيم الدورة التدريبية، وشخصية ميكافيلي. مهمة الاثنين، هي الحكم بين المرشحين، والعمل على انصافهم. ويقومان، في نفس الوقت، بإعطاء التوجيهات التي تؤدي الى تجارب عملية معينة، وفي نهاية المطاف، يشتد الخناق، شيئا فشيئا على الأسوأ من بين المتدربين المشاركين الثلاثة، حتى نعرف أي واحد منهم الاكثر اقناعا للهيمنة على المملكة الخيالية.

التربع على كرسي الحكم
ليس سهلا حتى اثناء التدريب

ولهذا، لم يتأخر الجو بين المتدربين من أن يتحول من الود والتعاطف إلى المواجهة العنيفة. لأنه كما نعلم، وكما يذكرنا ميكافيلي، بأن الانسان شرير بطبيعته، ولا يقوم بأفعال جيدة إلا عندما يعرف انه سيستفيد مما سيفعل. ولكن مع ذلك، لا نقلق نحن كمتفرجين كثيرا، لأن النكتة والفكاهة حضرتا بشكل دائم تقريبا، لانهما تعتبران ينابيع هذا العرض ومصدر سره.
لقد اختار لوران غوتمان، مقتطفات من كتاب ميكافيلي، وهو يحدث الأمير عن ما يجب وما لا يجب عمله، استطاع من خلالها، تسليط الضوء على سلوك، وتصرفات المتدربين في حالات تعتبر اساسية، ومفتاحا لحكومة الأمير: ‘كيف ينبغي على الأمراء أن يحافظوا على كلمتهم’، ‘وأمناء الأمير’، ‘والتسامح والبخل’، ‘ومن الأفضل أن يكون الأمير مرهوب الجانب من أن يكون محبوبا، وإن كان لا يستطيع أن يكون ذلك، فليكن الأثنين معا’، ‘ومن الأفضل أن يكون محبوبا، من أن يكون مخيفا’، وإلى اخر المقولات التي ترجمت في عرض ‘غوتمان’ إلى اللغة الحديثة من خلال التطرق إلى: وعود الحملات الانتخابية التي اغلبها كاذبة، واختيار الوزراء (وخاصة رئيس الوزراء)، والامور الاقتصادية، والضرائب … أي استحضار مواقف حقيقية متداولة بشكل عام في حياتنا اليومية الحالية، وكذلك الاخذ بعين الاعتبار بردود أفعال الجمهور الحاضر، الذي راح يتفاعل مع العرض بشكل مباشر، مما اضاف للعرض، جوا تفاعليا حيويا وحقيقيا، لأن ما يطرح على المسرح، كان يمس المتفرج بشكل مباشر. ولقد كان الممثلون /المتدربون، غالبا ما يحاولون اثارة انتباه الجمهور/الشعب، الذي كان يتوجب عليهم معرفة الكيفية التي يوجهون بها الخطاب اليه … ومن ثم ألم يكتب ميكافيلي الكثير للأمير، وفي نفس الوقت لشعبه؟ ففي المشهد الذي يتظاهر فيه الشعب للتعبير عن استــيائه، يدعو الممثلون جمهور الصالة، بأن يرددوا ما كتب من شعارات على سطح لافتات يرفعونها وهم على خشبة المسرح، مثل: ‘لا، لا، لا، للأمير الزائف’، ‘والحل الوحيد هو التظاهر، والخروج إلى الشارع’، وإلى آخره من شعارات، التي تندد بطبيعة الحال، برحيل وتنحي الأمير … مع ذكر اسماء شخصيات سياسية معروفة لدى الجمهور الحاضر. ولقد كان هذا المشهد في غاية الروعة والحماس، وقد خلق نوعا من الحميمية، والتعايش المتبادل بين أولئك الذين يقفون على الخشبة، واولئك الذين في الصالة، وكأننا نعيش المسرح السياسي في بداياته – ولكن مع اختلاف واضح في التصور- ايام ما كان ينادي بسكاتور، بالتحريض الواعي المباشر، الذي يكشف عن الحقائق المرة للواقع، وتعبئة الجماهير وتثويرها، والتأثير في تحركاتها، وتوجيهها، لكي يصبحوا أثناء عملية التقبل ايجابيين وفاعلين بشكل عضوي. حيث اتخذ بسكاتور من السياسة مادة وموضوعا لمسرحه ويعتبرها الوسيلة الفريدة القادرة على قيادة الصراعات وجعلها مركز الحياة الاجتماعية نفسها. وقد اعطى المتفرج، من خلال المسرح الوسيلة لاتخاذ إجراءات فورية،وان هذا المفهوم يمثل الفجوة الرئيسية بين مسرح بسكاتور، والمسرح السياسي المعاصر، الذي لم يعد مسرحا ملحميا ولا دراميا بالمفهوم القديم، لأنه وبكل بساطة، لم يعد يطلب من المتفرج القيام بحل النزاعات بنفسه. في حين أن لوران غوتمان، يراهن في عمله هذا، على مواجهة الإنسان لمشاكل عصره، والتصدي لها لان المسرح لم يعد مرآة للعصر، وانما وسيلة لتغييره، بموجب بريشت. ولهذا حاول لوران غوتمان توفير الأدوات اللازمة للمتفرج لبناء أفكاره، ومن هنا تأتي أهمية النص والشعر الدرامي في مسرحيته.
اما السينوغرافيا، فهي عبارة عن حالة عبثية مناسبة للـــعـــرض تمــاما، حيث نرى نصف سيارة فاخرة، تبرز باعتبــارها العــنــصر الوحيد من الديكور، باستثناء عدد قليل من الكراسي، وطاولة، يستخدمها الامراء/المتدربون، الثلاثة كل حسب دوره، وتخرج من بوابتها سجادة حمراء تمتد حتى الصف الأول من المتفرجين.
الامير الشجاع يجب ان لا يكون جيدا ويعرف
كيف يقوم بدور الشر اذا لزم الامر

لقد وضع المخرج الفرنسي لوران غوتمان، نيكولا ميكافيلي، مؤلف كتاب الأمير، في قلب دورة تدريبية، على خشبة مسرح 71 في ضاحية مالاكوف الباريسية. وطرح السؤال التالي: لو كان ميكافيلي على قيد الحياة اليوم، هل سيستغني عن مستشاريه؟ إذن نحن في صالة مجهولة تقريبا، جدرانها زجاجية، فيها كراس قابلة للطي، وماكينة لصنع القهوة … بعيد جدا، جدا عن محكمة ميديشي في فلورنسا بالقرن السادس عشر. في ركن من أركان المسرح، نرى المدرب في زي عصر النهضة، واسمه نيكولا ميكافيلي، وهو يتناص في ثوابته ومشورته مباشرة مع ميكافيلي مؤلف كتاب ‘الأمير’. ونرى أيضا، الفتاة المنظمة للدورة التدريبية في ملابس عملية، وهي تستقبل ثلاثة متدربين. في بداية النهار الأول من الدورة التدريبية، نلاحظهم وهم يشتركون في تناول ‘كاليت الملوك’، حيث يعثر فيها احد المتدربين على تاج الملك، المخبأ في طيات العجينة، فيتم تتويجه ملكا مباشرة، على البقية الباقية من المتدربين، وهكذا تبدأ اللعبة المسرحية، عندما تقول له الفتاة المنظمة: ‘انت الآن أمير، وعليك أن تلعب دورك بشكل جيد!’. ولكن التربع على كرسي الحكم، ليس بالأمر السهل، حتى وإن كان أثناء تمرين، وفي دورة تدريبية! فالشعب هو نفس الشعب الذي توزع عليه الحلوى من أجل ضمان مكانك فوق العرش (أو بالأحرى، مكانك في الجزء الخلفي من السيارة الفاخرة، رمز للسلطة الحديثة). وأدنى زلة منك تعتبر قاتلة، وضربة قاضية: فبمجرد ما يرتكب الحاكم خطأ بسيطا، يمر التاج إلى رأس مرشح آخر. ولكن هل يوجد أمير قادر على الحكم؟ ليس هذا بمؤكد أو واضح، لا سيما وان هناك العديد من الانهيارات التي وقعت، وعددا كبيرا من جرائم القتل والخسائر. ثم هل أن الأمير الفاضل في مأمن؟ أبدا، فلا بد له من التفكير باستمرار بالحرب، و’سيكون أكثر أمانا بكثير عندما يكون مخيفا من أن يكون محبوبا’. ولكن الحذر، ثم الحذر، يجب ان يكون مخيفا وتخشاه الرعية، دون أن يكون محتقرا، وإن الأمير المتغير، وغير المهم، والمخنث، والجبان، والمتردد، سيكون بطبيعة الحال، محتقرا. ولهذا يجب أن يكون كبيرا، وشجاعا، وجادا، وقويا. و’يجب ان يتعلم أن لا يكون جيدا’ و’أن يعرف كيف يقوم بفعل الشر، إذا لزم الأمر’. اليس هذا ما أرادت ان تقوله لنا، مسرحية ‘الامير’ لـ’لوران غوتمان’؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية