كيف تتفادى حرباً تجري خلف بابك؟

حجم الخط
0

عام 1975 تحررت أنغولا، بعد حرب استقلال دامت ما يربو على 14 سنة، وتخلصت من الوجود البرتغالي، الذي وصل إليها بدءاً من القرن الخامس عشر، استعادت حريتها، استردت أرضها من الأجانب، لكن رائحة البارود لم تفارقها، فقد دخلت بعدها مباشرة حرباً أخرى، هذه المرة، حرباً أهلية بين أخوة الأمس، واستمرت حوالي 27 سنة أخرى، كانت واحدة من أطول الحروب الأهلية في القارة السمراء، لعبت تداعيات الحرب الباردة في إذكاء نارها، فبين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تحولت أنغولا، الواقعة جنوب القارة الافريقية، المطلة على المحيط الأطلسي، إلى مختبر تجارب، تورط السوفييت وحلفاؤهم في تلك الحرب الأهلية، مثلما تورط فيها الأمريكيون، وأطالوا في عمرها.
كانت أنغولا بلداً تنصهر فيه التناقضات، يعيش فيه البيض والسمر، لا هي افريقية تماماً ولا هي أوروبية، كما أنها وجدت نفسها مجاورة لدول أخرى في نزاعات، في هذا الجو الدامي، حيث الموت صار حينذاك فعلاً مبتذلاً، والموتى ليسوا أكثر من أرقام في جداول الإحصاءات، تتبدى صعوبة في الكتابة عنها، الصعوبة ليس في الكتابة بحد ذاتها، بل كيف نكتب عن بلد ممزق دون أن ننجرف ـ لا إرادياً ـ في مبايعة فرقة دون أخرى؟ كيف يمكن أن نتعاطف مع الضحية دون إدانة الجلاد؟ كيف يمكن أن نكتب عنها مع تحميل عادل للمسؤوليات على الأطراف المتناحرة في ما بينها؟ لكن جوزيه أغوالوسا أفلح ـ نسبياً ـ في تخطي الحواجز الشائكة، كتب عن تلك الفترة المشتعلة من تاريخ بلده دون مواربة، دون أن يقف في صف أحد ضد الآخر، في روايته «نظرية عامة للنسيان» التي ترجمها إلى العربية سعيد بنعبد الواحد، وصدرت عن دار الخان في الكويت.

قصة حقيقية تتجاوز الخيال

من البداية ينبه المؤلف القارئ إلى أن الرواية تستند إلى قصة حقيقية، قصة لودوفيكا فيرناندش مانو، التي توفيت في أكتوبر/تشرين الأول 2010، برتغالية الأصل حبست نفسها في شقة، في العاصمة الأنغولية لواندا، طوال ثمانية وعشرين عاماً، وبينما كانت البلاد تدنو من استقلالها من البرتغاليين بنت لودوفيكا سوراً أمام باب الشقة، وظلت في الداخل ما يقارب ثلاثة عقود، تعيش في عزلتها، مخترعة حياة لها، لا تعلم ما يدور في الخارج، لا معرفة لها في أن أنغولا قد تحررت ثم دخلت حرباً أهلية، خلفت دفاتر ورسومات بالفحم على الحائط وأشعارا اعتمد عليها جوزيه أغوالوسا، وجعلت من بلكونة البيت حديقة تزودها بالحد الأدنى من الخضراوات. هذه الحكاية الواقعية يكاد يصعب تصديقها، لكنها حصلت فعلاً، وبنى عليها المؤلف، مستفيداً من شهادات أشخاص عرفوا لودوفيكا وسرد في «نظرية عامة للنسيان» حياتها ممتزجة بتاريخ أنغولا الذي انحصر بين حربين.

جوزيه أغوالوسا

إذن فإن لودوفيكا أو لودو، المنعزلة عن العالم، التي لا تدري شيئاً عن الحرب التي تقع في الخارج، ستصير بطلة للرواية في حضورها وفي غيابها، فرغم أنها تعيش بين أربعة جدران، ستكون المحور الذي تدور حوله القصة، التي تتداخل فيها شخصيات أخرى، من ممرضة وشرطي وصحافي ومرتزقة، وغيرهم، كل واحد منهم يلعب دوراً في تصوير الحال في ذلك البلد، وفي نقل ما جرى في غياب لودو عن العالم الخارجي، التي وصلت إلى لواندا برفقة أختها أوديتي، التي تزوجت هناك من رجل يدعى أورلاندو، قبل أن يختفيا وتجد نفسها وحيدة، وتدخل سباتاً حياً يفصلها عن العالم المحيط بها، وبينما تخلى البالغون عن هذه المرأة، ولا أحد تجرأ على الاقتراب من شقتها، التي نصبت أمامها حائطاً، سوف يصل طفل صغير اسمه سابالو، وهو شخصية على النقيض تماماً من بطلة الرواية، هو من سيرتقي إلى شقتها قصد سرقتها، قبل أن يتعرف عليها، يتقرب منها ويخرجها من عزلتها. في هذا المسار من تداخل حكايات الشخصيات، من محاولة المؤلف تفسير الفوبيا التي سكنت البطلة، يجنح إلى تحليل نفسي مهم، في فهم أعماق شخصياته، وكيف أثرت فيهم حربان، من حرب تحرير إلى حرب أهلية، كيف ترك الاستعمار آثاره في شخصياتهم، مثلما تركتها تبعات حرب الأخوة، وهنا واحدة من نقاط قوة «نظرية عامة للنسيان».

مقاومة الاستبداد بالانعزال

من نهاية الشيوعية إلى سطوة الرأسمالية على أنغولا، من زمن سماسرة الماس إلى وصول شركات البناء الصينية، من زمن العنصرية تجاه السود إلى تثبيت قوانين المساواة، ضمن كل هذه الفوضى من الأحداث المتداخلة في ما بينها، تجري وقائع الرواية، دون أن تشعر لودو بشيء، دون أن تعرف شيئاً عن التغيرات التي وقعت، ظناً منها أن كل شيء على حاله منذ أن شيدت سوراً قبالة باب شقتها عام 1975، وقد أمكن جوزيه أغوالوسا أن يسرد الرواية على لسان لودوفيكا فيرناندش مانو ـ لاسيما أنه توصل إلى دفاترها التي كتبتها سنوات اختبائها ـ لكنه آثر أن يجعل منها شخصية، ويروي قصته من منظور راوٍ عليم، لم يستثن أحداً من النقد ومن السخرية، بما في ذلك لودوفيكا، لم ينحز إليها، لم يبالغ في سوداوية المشهد، بل جعل منها طرفاً من تدهور الحال الذي عاشته البلاد، حمّلها مسؤولية مثلما حمّل شخصياته الأخرى مسؤولياتهم. مثلما عاشت أنغولا حربين منفصلتين، غير متشابهتين، رغم تواصلهما في فترة تاريخية واحدة، فقد جعل الكاتب من روايته أيضاً كتلة من القصص المتنافرة ـ ظاهرياً ـ في ما بينها قبل أن تتلاحم في النصف الثاني من الرواية، في صورة تشبه التاريخ المعاصر لبلده الأم. قد يكون الانعزال خياراً فردياً من لودوفيكا، عقب تسارع الأحداث، التي رافقت استقلال أنغولا، وفوبيا تملكتها من رؤية الحشود، كما يوضح ذلك الكاتب، لكن تلك الفوبيا تحولت إلى خوف مضاعف، خوفا من مواجهة العالم، والأهم من ذلك خوفاً من مواجهة الديكتاتورية، ومن منطقها الدامي كما حصل هناك، تبدو حكايتها أقرب إلى أسطورة، وخيارها المتطرف شكلاً من أشكال المقاومة الذاتية، في مرحلة انساق فيها الناس إلى طاعة استبداد سادة الحرب، فضلت هي أن تنأى بنفسها، مواصلة هوايتها في الكتابة وفي الرسم على الجدران، وصارت حياتها رواية تنبهنا إلى أن مقاومة الاستبداد ممكنة، ولو بالانعزال خلف أربعة حيطان.

روائي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية