كمال السمّاري: الصوت العربي لثقافة الحريات

مما منّ به الله علي أنه قيض لي، قبل ثلاثة عقود ونصف، اللقاء في لندن مع الكاتب المصري علي شلش، والإعلامي التونسي كمال السمّاري. كانت لندن آنذاك عاصمة للصحافة، وربما لكل الثقافة، العربية. وهذا ما قصده علي شلش لمّا قال يوما، مازجا جدا بهزل، إن «لندن هي قلب العروبة النابض!». كان تقاطع المسارات بيني وبين هذين الرجلين، اللذين عزّ في هذا الزمن أمثالهما، حدثا ميمونا أفاء على حياتي منذ مرحلة باكرة دلالات إنسانية تجذّرت فصارت راكزة في الأعماق. إذ كانت سانحة التعارف الأول فاتحة لصداقة مُغْنية للفكر والوجدان وافية بعهود الود والإعزاز رغم أن عمر الصداقة مع علي شلش، الذي توفاه الله أواخر عام 1993، لم يكن مديدا بحساب الأعوام. وقد شاطرني كمال السماري الرأي لما عبرت له يوما عن إعجابي بقدرة علي شلش، أثناء جلساتنا الأسبوعية في مقهى كوينزواي، على الإصغاء بكل انتباه وتواضع وعلى عدم إطلاق الأحكام العَجْلَى.
كان كمال، الذي انتقل إلى رحمة الله يوم 27 من الشهر الماضي، أحد أبرز طلاب باريس المناضلين في حركة برسبكتيف (آفاق) اليسارية التونسية في الستينيات، وعندما ضاق الخناق على المعارضين التونسيين وصارت أجهزة الأمن الفرنسي تعتقلهم وتسلمهم لأجهزة الأمن البورقيبي، لاذ في منتصف السبعينيات بلندن طلَبا للجوء السياسي. تبنّت منظمة العفو الدولية قضيته فبادلها وفاء بوفاء قبل أن يؤول به النضج الفكري إلى نبذ العمل السياسي والتزام النضال الحقوقي، فظل معروفا لسنين طويلة في مختلف وسائل الإعلام الدولية والعربية متحدثا رسميا باسم منظمة العفو. ونظرا لحصافته ومهارته في ممارسة الدبلوماسية الحقوقية وتنظيم الحملات التوعوية فإن الأمين العام بيار ساني قد اتخذه مستشارا شخصيا لازمه في جميع أنشطته ومهماته.

كان كمال من الجيل الذي حظي بتكوين كلاسيكي. يستشهد بالأمثال اللاتينية بنصها قبل أن يشرحها بالفرنسية. دقيق الملاحظة وخبير سوسيولوجي بالسليقة

كان كمال من الجيل الذي حظي بتكوين كلاسيكي. يستشهد بالأمثال اللاتينية بنصها قبل أن يشرحها بالفرنسية. دقيق الملاحظة وخبير سوسيولوجي بالسليقة. يستطيع مثلا أن يشرح لك آليات الاحتكار والتكافل عند مجموعة إثنية من السائقين أو السبّاكين في لندن، أو أن يتفطن إلى سيميائيات ما كانت ترتديه نورما وتتزين به يوم فوز زوجها جون ميجور بالانتخابات. وقد بلغ من فراسته أنه كان يكفي أن يقابل المرء مرة أو مرتين حتى يدرك مِن أيّ معدن هو. لهذا غالبا ما كان رأيه في الناس صائبا. ولأن صداقاته انبنت على الإخلاص المتبادل فقد كان يحدث، في حالات الظلم، أن يدافع عمن يحبهم دون علمهم. فلا عجب أن تقول لنا زوجته رحمها الله يوما: محظوظون، أنتم الرجال، بصدق صداقاتكم!
لم تكن تجربته في مجلة «الدستور» سعيدة. وكانت الافتتاحية النقدية نسبيا التي كتبها بمناسبة الذكرى الأولى لانقلاب 7 نوفمبر 1987 سببا في إجراءات انتقامية ضده وضد عائلته. أما تجربته الإعلامية الأهم فقد كانت في راديو البي بي سي، حيث أنتج برنامجا أسبوعيا عن الصحافة العربية اللندنية، ثم في مكتب الجزيرة في لندن حيث كان الباحث والمنتج للبرنامج الشهير «أكثر من رأي». كانت علاقاته واسعة في الوسط الإعلامي بمختلف تنويعاته، وأذكر أنه هو الذي عرفني بالإعلامي عبد الرحمن الراشد. وبعد ذلك بسنوات أقنعه بالمشاركة، ممثلا عن الإعلام السعودي، في المؤتمر الذي عقدته منظمة العفو في القاهرة في 26 مايو 1994 عن علاقة وسائل الإعلام بحقوق الإنسان. كان متعاطفا مع جريدة «القدس العربي» وكثيرا ما كان يصحبني في زياراتي إليها. وعندما جاء في الأخبار، بعيد الغزو الأمريكي للعراق، أن بوش كان يعتزم الأمر بقصف مبنى الجزيرة في الدوحة في أبريل 2003، كان كمال ضمن الوفد الذي توجه إلى 10 داوننغ ستريت لتسليم رسالة احتجاج.
حالما استطاع، طلّق لندن وفاءَ إلى حضن أمه تونس. فكان أولَ الأصدقاء الذين قابلتُ هناك أوائل فبراير 2011. وجدته جذِلا طرِبا بالثورة، مستبشرا بشبابها ومستقبلهم. هتف بي ووجهه يتهلّل: إني سابح في لجّة من السعادة! بعد ذلك، كانت له جهود وطنية شملت محاولة إنقاذ جريدة الصباح العريقة، والاضطلاع بدور المستشار الإعلامي لصديقه أستاذ الاقتصاد محمود بن رمضان لما تسلّم وزارة النقل. بقي كمال قارئا وفيّا لهذه الزاوية ولو أننا لم نعد نستطيع اللقاء إلا في بعض زياراته إلى لندن أو زياراتي إلى تونس. كان محبا للبلاد بارّا بها. نسأل الله أن يعفو عنه ويغفر له ويتغمده بواسع رحمته.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية