قامشلو.. القامشلي.. قامشلوكي

حجم الخط
2

خُططت بأنامل فرنسية على خريطة مهمشة في شمالٍ مهمش وشرقٍ بائس، لم تكن زجاجة عطرٍ ليتعطر بها الضابط الفرنسي تيرييه، بل كانت مجموعة من الغرف الطينية بعثرت على ضفّتي نهرٍ متسوّل ليتعطر أهلها برائحة الطين المنبعث من متاهات الغرف ذات الأبواب الخشبية المفتوحة على مصراعيها، رائحة الطين التي تنافس ليس فقط العطر الفرنسيّ بل فرنسا كلها، فأئتلفت الغرف الطينة المبعثرة لتعقد في ما بينها ميثاق شرف المدينة التي أخذت نصيبها من القصب المنتصب والموزع بالتساوي على ضفّتي نهر الجقجق، فورّثت المدينة اسمها من القصب أولاد النهر، القصب الذي يرضع من النهر أبداً، فكان القصب أي قامش أباً للمدينة وأجدادها فسميت (قامشلو ـ القامشلي).
أما قامشلو …أُلصِقَتْ بها أل التعريف الزائِدة لم تكن عَهْدية ولا جنسية، وإنما هكذا لتَدخُل على بُنية الكلمة كعابر سبيلٍ ضلّ الطريق فمكث فيها بدون استئذان من أهلها، أما الواو فقُلِبَتْ ياءً، ياء الانتساب إلى العربية فأرادوها القامشلي، ولكن الأكراد ردوا الياء إلى أصلها واواً بعيداً عن القواعد والبلاغة ولم يكتفوا بذلك، بل أضافوا إليها الكاف والياء انتقاماً للضيف الدخيل فنادوها قامِشْلوكي وتدخل العشاق أيضاً في تسميتها فألحقوا بها الفائض من الحب فنادوها قامشلوكه أفيني أي مدينة الحب. الحب المقسّم بقسمة عادلة إلى نصفين بفعل نهر الجقجق المنصف والمقهقه أبداً في جريانه جنوباً.
ذاك النهر ذو البدن النحيل الذي يشبهني في نحالته ووسامته أيضاً، لم يكتف بذلك، بل زاد على المدينة رومانسيّةً، فكل مدينة لا تحتضن نهراً هي مدينة بائسة لا تملك عاطفة وقد تبقى عذراء إلى أبد الآبدين.
وأنت تتجه غرب النهر تصطادك رائحة الحناء والتوابل من جهة ورائحة البخور من جهة أخرى، فتكون طريدة سهلة الوقوع في فخاخ الرائحة المقبلة من سوق عزرا الذي شيّد أول حجر من حجارته عزرا اليهودي فتكرّم اليهوديّ على السوق بنَسَبه وحَسَبه فأصبح اسمه سوق عزرا، بل كان له الفضل في إلحاق النكهة بطعام المدينة كلما ذابت توابله في طعامهم، السوق الذي يختزل ذاكرة المدينة وتاريخها بين أكياس التوابل وأعواد البخور، كل كيس من أكياسه يحتفظ بسرٍّ من أسرار هذه المدينة البائسة وكل عود بخورٍ أيضاً، وبالقرب من سوق عزرا ترى جاره سوق الأتراك المليء بالتبغ و البضائع التركية الوافدة من مدينة نصيبين توأم القامشلي في الجانب الآخر من الخط الحديدي الذي لا يكف عن الصراخ لحمله عبء القطار الثقيل والبطيء أبداً في سَيره. وعند مدخل المدينة الغربي تحجب عنك الرؤية هضبة الهلالية التي تحمل على ظهرها الغرف الطينية الدافئة، التي تزوّد عظام الفقراء الباردة بالدفء، الهضبة التي تظلّل الغرف الطينة والتي بدورها تظلّل أجساد الكادحين، هذا الحي الذي ترافق تعميره مع هندسة المدينة لا ينافسه في القِدم إلا حي (قدور بك) الذي يتربع في شرق المدينة وشرق النهر، قدور بك الهارب من نصيبين التركية فجاء بحجارةٍ خرساء من الجنوب التركي إلى الشمال السوري وأسس منزلاً فنطقت الحجارة وأصبح مالكاً للحي إلى أبد الآبدين.

٭ كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خولة بلكايلة:

    وصف رائع دقيق يحمل في طياته الكثير من الحب والغيرة على المدينة وأسلوب راق في السرد أضفى على المدينة روحا لكأنها إنسان بائس في صورة مدينة، إنسان محتل تعاقبت عليه الاحتلالات حتى ضاع رسم وجهه في اللغات فصار قامشلو

  2. يقول Perivsn Oso:

    دام قلمك ودامت قامشلو لنا تعبيرك وروحك النقية زادت من جمال مدينتي ??

إشترك في قائمتنا البريدية