في كتاب «المجتمع المنحطّ»: هكذا دمر النجاح الغرب

ليس المجتمع المنحطّ سيئاً يستوجب الإدانة، ولا هو جيد يدعو إلى الفخر. ليس متردياً مقبلاً على الفناء، ولا هو يوتوبيا. ماذا إذن؟ إنه كما يريد روس داوثت في كتابه «المجتمع المنحط» الصادر عام 2021 عن مكتبة 1246، فهو يرى القومية مظهراً من مظاهر الانحطاط، يعدها جزءاً من تاريخ الاستبداد.
الانحطاط في اللغة يعني التدهور في المعايير، أو الأخلاق والكرامة، أو الشرف، أو الانضباط، أو الجدارة في الحكم. والانحطاط مصدر (انحطّ) وحركة الانحطاط في الأدب ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا وإنكلترا، ونقول عصر الانحطاط كما حدث بعد سقوط بغداد إثر الغزو المغولي عام 1258 حتى بدء العصر الحديث.
وتمثل عصر الانحطاط بأمرين هما:
الأول: هو الانحطاط الفكري والعلمي، ويعني توقف العقل عن الإبداع والنمو، والثاني: هو الانحطاط الاجتماعي، وظهور الفردية والأنانية، وعدم القدرة على البناء ومواجهة الأزمات، وأبرز من تحدث في هذا الميدان المفكران مالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري.
أما الشخص (المنحط) فهو حالة مرضية تدعى في علم النفس (السايكوباثية) هي سلوك مضاد للمجتمع، يسمى أحياناً (العبثية) أو الأنانية، أو النشاز الاجتماعي، هناك مجموعة كبيرة يتصف بها السايكوباثيون، وهي لا تظهر بكاملها أو بدرجة واحدة في جميعهم، لكن من المؤكد انهم يشتركون بغياب الضمير، بما يكفي للشعور بالندم والإثم على تصرف مخلّ بالنواميس والمثل الأخلاقية للمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد.
نعود إلى أطروحة كتاب «المجتمع المنحط» الذي توزع على ثلاثة فصول، إذ تبدو بعيدة عمّا نهتم به، أو لا تتصل بمحيطنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، قد لا يكون صائباً تماماً الكثير من القضايا التي تناولها الكتاب، أو لا يمكن التفكير فيها، إلا من خلال طبيعتها الشاملة وتأثيرها على العالم بأسره: تغيرات المناخ والتعداد السكاني، أو الموارد الطبيعية، واستغلال الطاقة، أو الهجرة والتحولات الدينية والمدينية على سبيل المثال.
يرى داوثت أن مفهوم (الانحطاط) فضفاض وغير ثابت في الثقافة العامة، بل يُستخدم بطريقة متداخلة، ونادراً ما يأتي الاستخدام دقيقاً، وفي ذلك بالطبع جزء من جاذبيته وسحره، لا بد أنه شعر بالغرابة التي قد يُواجه بها اختياره هذا، وأدرك الحاجة الى المجازفة بتعديل المعنى الذي استقرت عليه الاستجابة اللغوية منذ زمن طويل، بإضفاء شيء من التميز عليها، وإعادة توظيفها، لقد كانت الكلمة تتوزع بين دلالات عامة منها:
• تدني الأخلاق وحب المتعة والمال والشهرة، ولشرح ذلك يستعين المؤلف بمثال (سكروج) الشخصية الرئيسة في رواية تشارلز ديكنز «أنشودة عيد الميلاد» إذ كان أنانياً وطماعاً وماكراً قاسي القلب، محباً للمال وبلا أخلاق، هذه الصفات تصاحب الانحطاط لكنها لا تعرّفه، وغالباً ما يرافقه نقص الدقة والتصميم، في حين كان (سكروج) مصمماً ودقيقاً.
• صورة أخرى شائعة من صور الانحطاط في المخيال الشعبي هي الشراهة في الجنس. ولا يتردد المؤلف من تكثيف معنى (المنحط) حين يشير إلى جمالية ما، أو فلسفة معينة في القرن التاسع عشر مثلاً، للحديث عما فيها من ابتذال ولا جدوى، أما المعنى الأخير الذي يشير إليه أينما وردت كلمة منحط في كتابه، هو ذلك المزيج من الشعور بالإرهاق والسعي إلى بلوغ الكمال في آن واحد.
كلمة (انحطاط) على هذا الأساس لا تعني عنده تدني الأخلاق وحب المتعة والشهرة حباً جما، وما إلى ذلك. إنه يعمم الكلمة على طيف واسع: الاجتماع والسياسة والعلوم والخيال والطب والبيئة والأدب والفن، حتى الترفيه وتزجية أوقات الفراغ، ويضمّنه التعثر ومحاولة النهوض مع عدم الاعتراف بقابلية السقوط، وهو يعني سقوط المجتمع الأمريكي قبل كل شيء آخر. لكن وفق أي معيار، لماذا، ومتى، وكيف؟ والكتاب في النتيجة محاولة من المؤلف في إنقاذ (امريكا المنحطّة) لكن كيف؟ إنما عن طريق الاستمرار في (استهلاك العالم).
(المنحط) إذن، كل ما مرّ مجتمعاً في طيف واحد، حيث الناس منشغلون باللهو والأكل والشرب دون غضاضة، بينما ينهار العالم، في التدني والتفسخ والانحلال في جميع المجالات، حتى الجمالي والفني واللغوي، فالمنحط بهذا القدر أو ذاك: منحدر، متدهور، منحل، متدنّ، مضمحل، متردّ، لكنه ليس كذلك فحسب، بل سافل، ساقط، مرتشٍ.
ظلال هذا المفهوم قد تقود الى دلالات بعيدة عن مغزى المؤلف في واقعنا العربي والعراقي، بينما تبدو عصور الانحطاط مألوفة في تاريخنا العربي، مثل هذا التصور يستند الى تراث قديم من السطو على القيم الأخلاقية في مجتمعاتنا العربية، انه يبدأ حين يقبل الناس العبث واللاجدوى، ويمررون الاستهتار بمواردهم ومصائرهم، ومصادرة حقوقهم وحرياتهم.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية