في غزة عرض خاص: مع كل ألفين شهيد كمشة طحين وكفن… وبرتقالة!

هل تعرفون حبيبي؟ هل رأيتموه؟ إنه دافئ ووسيم وشهيّ واجتماعي جداً.. الكل يحبه في بلادي.. لذلك يحمل جنسيات العالم بأجمعه.. لقد فارقني منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول بشكل نهائي، لم يهجرني بشكل إرادي، بل احتجزوه بعيداً.. يا الله كم اشتقت إليه وكم مرة رسمت وجهه بعناية بأصبعي على التراب المحيط بخيمتي المتهالكة. وكم مرة في اليوم الواحد أستعيد رائحته العذبة.. لقد انتظرت عودته طويلا، وحلمت به كثيرا، وما تمكنت حتى الساعة من رؤيته ولو من بعيد.. لقد قررت أن أبوح لكم بقصة عشقي الصغيرة، علني أجد بذلك البوح راحة أو يسمعني فاعل خير فيعيده إليّ قبل أن أموت.. ولكن اسمحوا لي أن أشهق قليلاً وأنتحب كثيراً وأنا أروي لكم حكايتي، التي بدأت منذ زمن بعيد.. زمن أجدادي.. عشق قديم سبق وجودي أو ربما قد يكون ولد بولادتي كي يتبلور أكثر.
أنا مريم.. أنا صغيرة جداً وعمري لا يتعدى السبع سنوات.. وحبيبي هو رغيف خبز أبيض طري.. أذكر أني أحببته من النظرة الأولى.. فأنا ما زلت أرى يديّ أمي، وهي جالسة على الأرض أمام الحطب تعجن بصبر ومحبة، وتلاعب الرغيف بين كفيها.. أمي ماتت أمس فوق أرغفتها، وبجانبها ركوة قهوة شبه فارغة.. هي اليوم تخبز لأبي.. نعم تخبز له هناك في الجنة «القريبة».. فأنا لا أرى الجنة بعيدة، كما يراها الآخرون في البلاد البعيدة من هنا.. وذلك لأن العبور إليها من غزة سريع جداً.. أتعلمون أن أمي تناديني يومياً لآكل فوق مائدتها السماوية.. وفي كل مرة أسمع صوتها أنظر إلى السماء فتستحيل رغيفاً دائرياً أبيض جداً يشع نوره نوراً ليزداد جوعي قهراً وحرماناً.
أنا وأخي الصغير نأكل اليوم الزعتر «حاف».. أخي أخبرني أن صديق طفولته يسرح طوال اليوم ليجمع أوراق الشجر، ظناً منه أنها «خبيزة» ويمكن طهوها.. وحين أخبره مراسل أحد القنوات أن تلك الأوراق لا تؤكل، لم تبك عيناه وحدها، بل بكى وجهه بالكامل وظل مبتسماً.. ثم أكمل طريقه وهو يردد: اليوم سنأكل خبيزة!

الخبز والدماء

أمس علمت أن صديقتي، التي تعيش في خيمة مجاورة كان لها حبيب.. هو الآخر رغيف خبز.. لقد كان يحاول العبور إليها من رفح، لكن العدو اغتاله.. ثم اغتال رفاقه الذين كانوا معه في الشاحنة نفسها.. رآهم بائع برتقال مصري فقير، يتجوّل على عربته فرمى الجنود برتقاله، الذي لا يملك سواه، محاولاً أن ينقذ بعض الأرغفة، لكنه سقط، وهو يحمل آخر برتقالة في يده. أما الناجية الوحيدة فكانت قطعة خبز صغيرة، راحت تركض بسرعة، علها تنجو من النار المحيطة بالمكان، لكن جنود الاحتلال نصبوا لها كميناً وراحوا يتناوبون على اغتصابها.. كانت تصرخ وتنادي الجيران، لكن لم يسمعها أحد منهم، فالكل منشغل بمؤتمرات حقوق الإنسان وورش عمل تتحدث عن تنمية مهارات الأطفال!
قولوا لي كيف نلوم جيراننا، وهم غارقون في 60 ورشة لتطوير واكتشاف مواهب أطفالنا «الأحياء»؟
هكذا نزفت قطعة الخبز المغتصبة، وراحت تزحف على بطنها وهي تتمزق من شدة الألم، لكن المغتصبين لم يكتفوا بهتك جسدها، بل قرروا أن يطلقوا عليها النار ويتركوها تنزف حتى الموت.. لقد حدث كل هذا، لا بل حدث أكثر بكثير، تفاصيل إن كتبتها قد تحذف لبشاعتها، وذلك خوفاً على ما تبقى من نفسية القارئ العربي وأحاسيسه الهشة والمنهارة.
نعم، لقد اغتصبت وقتلت وامتص الذباب دماءَها، ولم ينتبه لها أحد.. لكن الكل معذور.. وذلك لأن العديد من المهتمّين بالقضية كانوا في ذلك الوقت تحديداً يناقشون حال المرأة وحقوقها ويضعون خططاً ممنهجة تسعى لزيادة وعي المجتمع بتلك الحقوق وأهميتها!
في الحقيقة، وبدون أية مزايدات، إن اللوم وكل اللوم يقع فقط على القطعة القتيلة.. كيف تموت سريعاً؟ كان بإمكانها أن تنازع ليومين أو ثلاثة حتى انتهاء المؤتمر فيتفرغ المجتمعون لأوجاعها؟
موت رغيف الخبز، جر نحوه موت الكثير من العشاق.. هكذا سمحت قوات الاحتلال المجرمة بدخول حوالي 800 كيس طحين لأكثر من 600 ألف شخص.. وتسابق الأهالي نحو الشاحنات للقاء الطحين، فكان في انتظارهم وابل من رصاص العدو.. مات الكثيرون وهم يحملون أكياس الطحين، التي تناثرت فوق دماءهم لتنبت على الأرض أرغفة من دماء!
لقد أدخل العدو الطحين ليتجمع الناس فيصطادون منهم أكبر عدد ممكن.. ومن بقي على قيد الحياة كان يمشي بجانب الجثث، وهو يدرك تماماً بأنه مشروع جثة.. مات الكثير من الآباء والأمهات ثمناً لرغيف بارد.. وكان هناك ولد صغير يتحايل على الدماء المخلوطة بالرمل وببقايا الطحين المرمية على الأرض، محاولاً التقاط الطحين ليملأ به جيبي كنزته المثقوبة. وعلى مقربة منه كانت هناك امرأة تصرخ بأعلى صوتها:
«إحنا بنروح ناخد كيس الطحين وحاملين كفنّا على أيدينا.. يعني جايين ناخد طحين وهينا بنموت.. انا سايبة تلات أولاد في قلب الدار يا عالم إرجع يا عالم ما أرجعش.. ثلاث مرات انطخ علي وأنا بقول يا بروح بطحين يا بديش أروح»؟!
هنا غزة».. هنا أرض ترابها من طحين ودماء.

 كاتبة لبنانيّة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية