في الحشيش والأفيون… الفراديس المصطنعة لشارل بودلير

حجم الخط
0

إن قراءة بودلير (1821- 1867) تحتاج إلى وسيط مكثف من التحرر من المزيف والانغماس فيه، والتقدم إليه عاريا من الأحكام المسبقة والاستغراق فيها، وإشعال مدارك الشر، لاستقبال كتاباته المفرطة، التي تكتنه الأشياء من جانب الشر في الإنسان، وتعشق السير على شفا الهاويات، وجمع التناقضات في التحام محكم، من خلال مخيلة ذاتية، فائقة الحساسية للعالم والأشياء، ومكثفة ببيئة نفسية قاسية شكّلها الزمن، وبيئة خارجية مكبلة بالشقاء والبؤس. تعمل تلك المخيلة على استقبال العالم، وإخراجه في منطقة تتلظي بالصراع بين الخير والشر، منطقة تغلي بثورة الندم بعد ارتكاب الجريمة الأولى، منطقة من السأم المطلق من «الحمق والضلال والإثم والشح.. ونحن نغذي الندم فينا»، إلى «لحظة تسلل الموت إلى صدورنا كنهر خفي يطلق أنّاته المجنونة».
ففي كتابه «الفراديس المصطنعة» – دار المتوسط – ترجمة ناظم بن إبراهيم، يقارب شارل بودلير تجربة تعاطي الحشيش والأفيون، من وضعية الملاحظ لتجارب الآخرين، فيندمج فيهم كأنهم هو، وكأنه هم، فينظر إلى نفسه حين يرى، ويتيح لنفسه الفرصة لتأمل ذاته، ولدراسة وتأكيد اختياره لطريقه بكامل وعيه. فعن طريق الملاحظة المباشرة بمنهج ثنائية الخير والشر، بعدِّهما شكليين أزليين للحياة، يستخلص بهما النتائج، ويشكّل خطابه بأداة إغواء شيطانية متلثمة بحس أخلاقي، يمتزج فيه الخلود والبؤس، وتتعايش فيه التناقضات في وحدة واحدة، تبعث على الدهشة، فكيف يتم ذلك؟ يقارب بودلير ذلك التناقض على مستوى العلاقة بين الانغماس في بؤس التعاطي، وفساد اللانهائي من ناحية، ومن ناحية أخرى، العلاقة بين تشكّل بيئة الإنسان الداخلية والخارجية، ودورها الكبير في إذابة التناقضات تحت تأثير المثالي المبتكر، وهي الحد الأقصى من الانغماس والاحتفال بالسقوط. فيقيم «قصيدة الحشيش» على مفهوم «طعم اللانهائي» كعامل الإغواء الرئيسي في تعاطى المثالي المبتكر- الحشيش والأفيون – كما يطلق عليه، ومفهوم اللانهائي في فكر بودلير عامة، يحيل إلى منطقة ممتدة وغير محدودة، مفتوحة على الأسئلة الدائمة والمتجددة، مثل الفراغ الموحى في الأعمال الفنية، ومتعة اللعب بدون مبالاة بالمكسب أو الخسارة، وهو ما يتماهى مع تعريفه للجميل «إنه شيء غير محدد، يفسح المجال للتخمين». فتجربة تعاطي السم تتعالق بشكل مُطّرد مع مفهوم فساد اللانهائي، وشقاء الإنسان بعقله وامتلائه بالأهواء، ما جعله يندفع تجاه الرغبة في السقوط، مقابل الارتفاع للسماء، فاللذة المباشرة واختلاطها بطعم اللانهائي، دفعت به للبحث عنها في العلوم الفيزيائية والكيمياء، فسعى بشكل محموم لخلق جنته من خلال الصيدلية والخمور، ويُشْبه ذلك، من يستبدل جنة حقيقية يتطلب الفوز بها العدو مسافة كيلومتر واحد، بجنة مرسومة على ورقة وموضوعة في إطار خشبي على الحائط، يمرّ عليها مئات المرات بيديه، ويحلق بخياله فيها، كما المخمور يتمايل شامخا وسط القمامة، وكما كاتب يمثل بكثافة في عزلته، ويظن أنه صنع تعويذة من جملة سحرية لإنهاء شقاء العالم.
وفي جانب آخر، يشبه بودلير الآثار الغامضة التي يحدثها الحشيش والأفيون في «مسرح الظلال» موضحا تلك الدلالة في تتبعه لمراحل نشوة الحشيش، بداية من تسلل الآثار ببطء، وصولا إلى مرحلة الانتشاء القصوى، بالدخول في عالم من الظلال المتضخمة، فيرى الإنسان نفسه، ولكن بمواصفات مكثفة من الألوان والسرعة التي تتشكل وفقها التصورات، فهو «الإنسان نفسه مضاعفا، والعدد نفسه قوة ضارب كبير جدا». ويؤكد أن تلك الظلال تتكون من الجانب المهيمن في داخل الإنسان المجرب، ولا شيء من خارجه». لقد أراد أن يصبح ملاكا، فصار بهيمة «فلا يوجد شيء خارق سوى الطبيعة في صيغتها المفرطة، فنحن أمام عملية مقايضة مع الحواس والعقل، نوع من استبدال الرؤية الطبيعية، برؤى تتحول فيها الأشياء المحيطة إلى أشياء فريدة، تتشوه، ثم يكون عالم الغموض بلذاته اللامتناهية، فترنو العيون إلى اللانهاية الممتدة، وتستقبل الآذان أصواتا صعبة التحديد، مقبلة من بعيد، ويبدأ الهذيان.. الانتشاء المستديم بالرقص مع الدمى الضخمة.

على الرغم من أن بودلير يعترف صراحة بوجود طرق أخرى لتجديد الروح، من خلال العمل والتأمل، والاختبار المستمر للإرادة، فإنه اختار الطريق الآخر وهو، التفكير تحت المؤثرات، وكأنه تعمد ذلك للتأكيد على استخدامه الشر كمنهج لوعى العالم ومساءلته في الوقت ذاته عن المأساة الكبرى التي يسوقه إليها الحمقى والأغبياء.

ويقدم بودلير شخصية توماس دي كوينسي (1785 ـ 1859) كشخصية مثالية لاختبار وتجسيد أفكاره، ويبرر ذلك بأنه من العبث اختيار تاجر أغنام لتقييم الآثار المترتبة على تعاطيه الأفيون، لأنه لن يحلم إلا بالمراعي والأغنام. فتتميز شخصية دي كوينسي كما يصفها بودلير، باحتوائها على كل العناصر لتجسيد آثار المخدر، ولتحديد وتعريف آثار الدمار النفسي المترتب على ذلك، فهو «إنسان ذو حساسية عالية» أو هو، بتعبير الرومانسية، «الإنسان الذي لم يُفهم» فهو مزاج عصبي، متمرس في دراسة الأشكال والألوان، قلب حنون، متعب من البؤس، مستعد في الوقت نفسه للتجدد، يتمثل أخطاء قديمة، أو ندما متعلقا بالماضي، متشظ بقضايا الميتافيزيقا. وكلها تمثل مدخلات مثالية لمعرفة تأثير السم في الجانب الروحي من الإنسان، أي التضخم والتغير والمبالغة التي تطرأ على مشاعره المعتادة، وتصوراته الأخلاقية، التي يمكن أن تمثل في جو استثنائي «ظاهرة انكسار حقيقي» ، ويلاحظ أن آثار الأفيون حولت كل شيء أمام دي كوينسي إلى نوع من السحر الخلاق، ودرجة عالية من السرور دفعته إلى التَوله بذاته، فتنصهر المتناقضات كلها، وتبدو الإشكاليات الفلسفية واضحة، وتصبح الأشياء التافهة ذات أهمية مبالغا فيها، ويستحيل كل شيء أداة للمتعة، فيرى نفسه مركزا للكون، ويذوب داخل نفسه، محيطه، أحلامه، أوهامه، حتى يثمل بالفكرة النهائية والقصوى «لقد أصبحت إلهاً» فتجري المتناقضات في ملائمة عجيبة، الخير هو الشر، والشر هو الخير، الملاك هو الشيطان، والشيطان هو الملاك… لحظة من الموت الذي تتهاوى أمامه أحداث الزمن التي مرت بالإنسان وتترابط بالمستقبل في سلسلة من المنطق المخيف.
وفي نهاية دراسته يطرح بودلير سؤالا مهما وهو «ما إذا كان بإمكان الإنسان على حساب كرامته وصدقه وحرية إرادته، أن يستخرج من الحشيش بعض الفوائد الروحية العظيمة، عن طريق جعله أداة للتفكير، ووسيلة خصبة؟». ويجيب أن الأمل في هذه المنافع لا يظهر في وهلة النشوة الأولى الخالية من أي منطق… وأن الأفكار التي ينوون استلهام جزء كبير منها، ليست حقا جميلة كما تبدو في ثوبها المؤقت المغطى بحلى سحرية، إنها تنبع من الأرض أكثر منها من السماء، وتدين بجزء كبير من جمالها إلى الإثارة العصبية، والجشع الذي يرتمى به العقل عليها. فإذا سلمنا بأن الحشيش يزيد من العبقرية، فإنه يقلص من الإرادة، وبالتالي فهو يمنح من جهة ما يأخذه من الجهة الأخرى، أي الخيال، بدون التمكن من الاستفادة منه، ويعقب على ذلك بأنه «إذا كان هناك رجل ماهر بما فيه الكفاية، وقوي بما فيه الكفــــاية يتمكن من الخروج من هذه المعادلة، فسيدخل لا محالة في خطر جديد وقاتل ومروع …. وهو التعود، فكل شيء سيتحول قريبا إلى ضروريات، وذاك الذي لجأ إلى السم كي يفكر، سيجد نفسه غير قادر على التفكير بلا سم».
وعلى الرغم من استخدام بودلير للمنهج الثنائي لتحليله واستخلاصه نتائج التعاطي على الشخصيات، التي أخضعها للملاحظة، فإنه للوهلة الأولى يبقي القارئ في منطقة من التشوش لموقف بودلير ذاته من الحشيش والأفيون واستخدامه، خاصة كمثير للعملية الإبداعية، وهو تشوش يشى بوضعية أزلية، وكل ما لا يمكن علاجه، كما سؤال مفتوح وكتاب بلا نهاية، ولكن بإضافة جزء من سيرته مع بعض مواقفه التي سردها في هذا الكتاب، ستظهر ملامح الصورة بشكل كبير، فنجد أن هناك ميلا واضحا من الإعجاب بالحشيش والأفيون وعوالمه السحرية، فقد نحت له مصطلح «المثالي المبتكر» ويضاف إلى ذلك موقفه مع بلزاك (1799- 1850)، وعنونة نهاية سيرة دي كوينسي «يوميات آكل أفيون إنكليزي» بالنهاية الكاذبة.
فقد شاهد بلزاك في أحد اللقاءات التي كانت مخصصة لمناقشة آثار الحشيش المذهلة، فيرى بلزاك» أنه بدون أدنى شك، لا يوجد بالنسبة إلى الإنسان شيء أكثر عارا وأكثر إيلاما من التنازل عن إرادته»، وعندما قدموا له «الدوامسك» تفحصه وتشممه، ثم أرجعه بدون أن يلمسه، ويقول بودلير إن ملامح وجهه خانته، فبدا عليه بشكل مثير للانتباه، الصراع بين فضوله الطفولي ورفضه للتنازل، وانتصر حبه للحفاظ على كرامته. ويعلق بودلير «في الحقيقة من الصعب تخيل ذاك الذي هندس هذه الإرادة… أن يسمح بتضييع قطعة من هذه المادة الثمينة».
أما تعليقه على النهاية التي وصل لها دي كوينسي في تماثله للشفاء، بعد طول معاشرة ومعاناة آلام التخلص منه، ومخاض الولادة الجديدة، فيوضح بودلير أن تلك النهاية بدت له مصطنعة، «وابتكارا لا يخدم غير الحذر البريطاني، وتضحيته الدائمة بالحقيقة من أجل شرف الحياء، والأحكام المسبقة العامة، فبعض الشعوب تريد نهايات أخلاقية، والبعض الآخر يريد نهايات مواسية». وتأمل تلك المواقف، يعطي تفسيرا مخالفا لما ذهب إليه سارتر (1905 ـ 1980 ) في دراسته عن بودلير، من أن بعض من مواقف بودلير مثل موقفه من محاكمته عن كتابه «أزهار الشر» لم يحاول ولا مرة أن يدافع عن مضمون كتابه، ولم يحاول أن يشرح للقضاة، أنه لا يقبل بأخلاق المدعين، وبدلا من أن يشكك في صحة أساس نواهيهم، يقبل بالعار السري وهو الكذب وإخفاء معنى كتابه. فتتبع تلك المواقف تؤكد أن بودلير كان على وعي من اختياره التصرف بهذه الطريقة، ما يعني إذا جاز التعبير، انتقاما من العالم بإظهار وجهه البشع، وكأن لسان حاله يقول: سأظهر جانب الشر فيكم، بل سأجعله جميلا نفاقا لكم، لكي تكملوا على الطريق نفسه ونهايته المحتمة، وهو ما يشبه أن تصنع من قاتل بطلا، ومن فاسد رجل خير سليل الشرف.
وننتهي إلى أنه على الرغم من أن بودلير يعترف صراحة بوجود طرق أخرى لتجديد الروح، من خلال العمل والتأمل، والاختبار المستمر للإرادة، فإنه اختار الطريق الآخر وهو، التفكير تحت المؤثرات، وكأنه تعمد ذلك للتأكيد على استخدامه الشر كمنهج لوعى العالم ومساءلته في الوقت ذاته عن المأساة الكبرى التي يسوقه إليها الحمقى والأغبياء، فلا غرو أن يشبه الوهن الأخلاقي للاختراعات الحديثة في زمانه، بالحشيش في نحوها إلى تقليص الحرية الإنسانية. فأظهر العالم من خلال جانب الشيطان في الإنسان، فاتحد به، وسفح نفسه تجسيدا له، فأظهر الوجه البشع للعالم، كما الإنسان، ووجد في ذلك منتهى إبداعه، فإذا كان قد عبر عن ذلك شعرا في ديوانه «أزهار الشر»، فإنه تأمل تجربته الشعرية في «الفراديس المصطنعة»، كنوع من الوعي بها وتأملها والتأكيد على اختياره الشر، كوجه أوحد ووحيد لإدراك العالم البائس.

٭ كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية