في الثقافة الديمقراطية

حجم الخط
8

في أوروبا الآن انتخابات ونتائج مهمة جدا تفيدنا ربما في فهمنا للثقافة الديمقراطية. فعندما قام البعض بوشم التحركات الشعبية التي قامت في بلادنا خلال السنوات الأخيرة بوشم الديمقراطية اعترض البعض الآخر مشيراً الى استحالة ذلك قبل تثقيف الناس بها.
فهي مناخ ثقافي قبل أي شيء آخر، كما قيل. كما أشار غيرهم إلى أنه من الصعوبة بمكان أن تطرح الناس على نفسها مسألة القيام بمهمة لم تستعد لها جيدا بعدُ. قيل ذلك في ظروف الانتفاضات الأولى بحيث بدت الثقافة الديمقراطية شرطاً لا بد من توافره للعبور من الاستبداد إلى الديمقراطية.
اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات ونيف على بدء الحراك العربي، اتضح، على الأقل، أن ما جرى لا يتعدى القلاقل ولا يشبه ما حلم به الحالمون. غياب الثقافة الديمقراطية هي السبب بحسب البعض، سرقة الثورة هي العلّة بالنسبة للبعض الآخر. لكن لنحاول أن نلقي نظرة على تجارب الشعوب، المشبعة بهذه الثقافة، والتي لم تكتفِ بالمعرفة فيها بل هي تمارسها منذ أكثر من قرنين. ففي سياق الإنتخابات التي تجري في بلاد توصف بأنها أم الديمقراطية بالعالم لوحظ ميل ثابت، منذ سنوات وحتى عقود، نحو تراجع المشاركة الشعبية في العمليات الإنتخابية. فنسبة الممتنعين عن المشاركة راحت تتراوح بحسب الفترات ونوعية الإقتراع بين 30 إلى 60 بالمئة من الذين يحق لهم التصويت.
إذن وبالرغم من تشبع الناس بالثقافة الديمقراطية، يمتنع أقل من الثلثين قليلا، حوالي الـ 60 بالمئة، من المواطنين عن ممارسة حقهم بالإدلاء بوجهة نظرهم في المشاريع المقترحة لإدارة شؤونهم العامة وحياتهم اليومية. من جهة أخرى لوحظ أيضاً ظاهرة انتخابية، متصلة بالأولى أغلب الظن، وتتمثل بالتصويت السلبي أو الإعتراضي وذلك عبر قيام المواطن بالتصويت لطرف لا يؤيده بل يريد من خلاله تسجيل اعتراض على الطرف الذي يؤيد فعلاً. نوعٌ من التصويت العقابي، أو تصويت النكاية إذا صح التعبير.
فإذا أضفنا هؤلاء إلى الممتنعين نصل إلى نتيجة مفادها أن النسبة التي تقرر حياة البشر في هذه الديمقراطيات لا تتعدى بأحسن الأحوال الـ 20 بالمئة من المواطنين وليس من السكان. فالمواطن هو الذي يعيش على الارض ويحمل جنسيتها ويتمتع بحقوق المشاركة بالانتخاب ترشيحا وانتخاباً. إنه مواطن الدولة – المدينة، أي صاحب الحق بتقرير الحياة العامة. لكن كلنا يعلم اليوم أن هناك جاليات أجنبية، تتراوح نسبتها بين 10 إلى 15 بالمئة من العدد الإجمالي للسكان، تعيش أيضا على أرض الديمقراطيات ولا تتمتع بحق المواطنة وإبداء الرأي بالحياة التي يشاركون بها على نحو سلبي بينما يتلقون نتائجها طيلة عمرهم كاملاً في أغلب الأحيان.
الخلاصة الأولية التي يمكن التوصل إليها من خلال هذا العرض أن الحكم في البلاد الديمقراطية العريقة يستند بالنتيجة العملية إلى أقلية ضئيلة بالتضاد مع فلسفة النظام الديمقراطي وقواعده التي تنص بالعكس على حكم الأكثرية، أكثرية المواطنين. ليس المقصود هنا التقليل من أهمية نظام تاريخي أثبت جدواه السياسية والإجتماعية والإقتصادية. لكن التوقف عند الجانب العملاني للديمقراطية نسبة للنظام النظري يبيّن افتراقات جوهرية تصل أحياناً إلى حد الإفتراق الفلسفي. إذ كيف يمكن التوفيق بين نظرية حكم الأكثرية وبين تحولها عمليا إلى حكم من قبل أقلية لا نعرف الكثير بالواقع عن تاريخ تشكلها وشروطه وتنوع بناها وأسباب توزعها شيعاً وأحزاباً.
الثقافة بالديمقراطية ليست إذا بذاتها ضمانة لممارسة صحيحة للفكرة. الممارسة تحتاج، على ما يظهر، من خلال الإحصاءات الثابتة، إلى عوامل أخرى غير الثقافة. هل هي الفعّالية ؟ هل تخلى الناس، المواطنون، أي اصحاب الحق، هل تخلّوا عن حقهم لقناعة لديهم بأن صوتهم لا نفع له ولا يساهم بأي تغيير في شروط حياتهم ؟ هل لهذا التخلي صلة ما بوجود نخب منظمة في مجتمع المواطنين تمارس نوعاً من الفرض والإكراه الإستبدادي المضمر ؟ هل تملك هذه النخبة أسباباً «مقنعة» لا تملكها جموع المواطنين فامتنعوا ؟ وأبعد من هذا وذاك هل يمكن اعتبار هذا الشكل الحديث من الديمقراطية مختلفاً عن الشكل الذي عرفته روما الامبراطورية واثينا اليونانية قبلها حيث كان تعريف المواطن أقل عمومية مما هو عليه الآن ؟ هذا مع العلم أن حكم الشعب بواسطة الشعب من قبل أكثرية المواطنين، جاء لكي يطيح بنظرية المواطن الروماني او اليوناني عندما كان يميز بين الفقراء والأغنياء، الأشراف والحقراء، بين الأرستقراطيين والتيرانيين أي الإستبداديين.
يقول البعض أن تعقد عملية ادارة المجتمعات الحديثة غلّب التقنية والمعرفة العلمية على الجانب السياسي مما أفقد بالواقع قدرة المواطن على الإختيار. ويعترض آخرون بالقول أن التحولات التي تجاوزت حدود الدول هي التي حرمت عملياّ الدولة – المدينة من حق القرار دون أن تمسّه بالشكل. فالشركات العابرة للقارات هي التي تقرر كل شيء بالنيابة عن الجميع.
على أي حال، ففي الإنتخابات الأوروبية التي جرت في بداية هذا الأسبوع ما يشي بهذه المشكلة. فقد قام المقترعون في بلدين عريقين بديمقراطيتهم هما فرنسا وبريطانيا، وبغياب الباقين، بالتصويت لصالح أكثرية سياسية لا تقبل بالمشروع الأوروبي وتريد العودة الى الدولة الوطنية السابقة. همّشت هذه الإنتخابات جميع الأحزاب التقليدية التي حكمت البلدين منذ عقود طويلة وأطلقت دينامية الخروج على الإتحاد الأوروبي. وهناك من يتحدث عن «بينغ بانغ» سياسية في هذين البلدين. بعيداً عن الثقافة كيف يمكن قراءة هكذا انقلاب في مزاج «المواطن» من دون الإنتباه إلى أنه لم يطل إلا البلدين الأوروبيين، فرنسا وبريطانيا، اللذين انتقلا بأقل من خمسين سنة من مرتبة الدولة العظمى إلى مرتبة الدولة الوسطى. فهل لذلك علاقة بنسبة المشاركين باللعبة الديمقراطية ؟
لا تزال الديمقراطية، حكم الشعب من قبل الشعب، مفهوما تاريخياً مرتبطاً بدرجة تطور الدولة أكثر من ارتباطه بالقناعات والثقافة والتربية. هذا ما تفيدنا به تجارب الشعوب «العريقة». بالماضي اليوناني تمثلت أولى النقلات نحو الديمقراطية بالإطاحة بالارستقراطية من قبل «المستبدين». وكان « التورانّوس» ( المستبد)، زعيم الشعب ومن أصول أرستقراطية ايضاً، هو من ساهم بتوسيع الإطار المجتمعي لمفهوم المواطن والشعب.
الفلسفة الديمقراطية تقوم بالتحليل الأخير على متابعة تطور مفاهيم المواطن والشعب والدولة – المدينة. فكلما اتسعت قاعدة من يحق له ان يكون مواطناً فرداً حرّاً اتجهنا نحو الشعب فالدولة. وكلما ضاق الرابط المواطني ووهن، ضَعٌفَ الشعب والدولة فالديمقراطية أيضاً. وبالرغم من ذلك اتضح من المثال الأوروبي الطويل، بامتناع الغالبية عن المشاركة، أنه إلى هذه الشروط ثمة شروط أخرى لا غنى عنها لكي يشارك الناس بإدارة حياتهم.

عناية جابر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو جمال:

    تعتبرالديمقراطية البرلمانية ( النيابية ) أقل أشكال نظام الحكم سوء في العالم إلى حد الآن في انتظار نضج الظروف التي تساعد على بناء أسس الديمقراطية المباشرة . غير أن الوضع في العالم العربي كارثي حيث يمكن تقسيم أنظمة الحكم فيه إلى مجموعتين : المجموعة الأولى لا تعترف بالديمقراطية أصلا ، بينما تعتمد المجموعة الثانية ديمقراطية الواجهة التي تشتغل على الشكل و تغيب المضمون . و تصبح المسألة أكثر خطورة عندما يتبنى قطاع عريض من الشارع أنظمة حكم مضى عليها أزيد من ألف سنة أو البحث عن العادل المستبد .  

  2. يقول رضوان،تازة،المغرب:

    إنه من أجمل ما قرأت حول موضوع الديموقراطية

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    أمريكا سوف لن تسمح بتقسيم اوروبا مرة أخرى
    فلقد تصالح العدوين اللدودين ألمانيا وفرنسا وأصبحا نواة قوة لا يستهان بها
    وضحيا بالمارك والفرنك لصالح اليورو أفبعد هذا يفترقا

    ان وحدة اوروبا هي وحدة مصير خاصة هناك القيصر بوتن يتربص بهم

    ونحن كشعوب عربية واسلامية متى سنفكر بالاتحاد ولو بيننا كشعوب

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول ابو سامي د.حايك:

    الدوله العظمى في أوروبا هي ألمانيا و أعني إقتصاديا و كانت قد تحطمت في الحرب العالميه الثانيه و مع أن بريطانيا و فرنسا انتصروا فقد كانوا أيضا منهكين من الحرب و لم يتقدموا كما تقدمت ألمانيا و جاءت فكرة الإتحاد الأوروبي لاحتواء ألمانيا و فرنسا كي لا تقوم حروب بينهما كما في الحربين العالميتين الأولى و الثانيه و لاحتواء أوروبا كلها في إطار إقتصادي يضمن الرفاهيه و لكن في سياق توسع الإتحاد الأوروبي دخلت فيه دول ضعيفه أصبحت عاله على الإتحاد و تذمر الشعب برغم “نبل” الهدف فألمانيا و فرنسا يدفعان مع الإتحاد المليارات لدعم دول مفلسه مثل اليونان و اسبانيا وكل ذلك طبعا من أموال الضرائب و نفهم من هذه الخلفيه فوز الأحزاب اليمينيه المتطرفه في انتخابات البرلمان الأروبي الأخيره كمذكره شديدة اللهجه من الناخبين لحكوماتهم لوقف هذا النزيف الذي يهدد الضمانات الإجتماعيه في بلدهم نفسه و عندما كانت الديمقراطيه للجيوب الملآنه و البطون الشبعانه لم يكن من المهم كثيرا أي حزب يصل إلى سدّة الحكم فذلك لا يهدد الإستقرار و الضمان الإجتماعي و كل شيئ يسير كالمعتاد تحت حزب اشتراكي أو متحفظ لأن هناك قواعد لا يمكن المساس بها و في هذا الإطمئنان لا يوجد “نفير عامّ” يستفز المواطنين للتوافد إلى صناديق الإقتراع و لكن ذلك لا يعني أن الذي يبقى في بيته خامل سياسيا بل هو مطمئن بأن لا شيئ سوف يتغير جذريا فالديمقراطيه في رأيي أولا و قبل شيئ هي ممارسه و خبره اكتسبها الشعب على مر السنين و تغيّر الحكومات مع الثقه في مؤسسة الدوله التي ينتمي إليها الجميع و استثمروا فيها كل مكاسبهم حتى تعود عليهم سواسية خدمات و ضمانات و مستقبل آمن

  5. يقول Hassan:

    الديمقراطية عند العرب لافتة بها تاجر من وقع انتخابه ولم تعد تهمه إلا نفسه والدائرة المحيطة به من أقرب الأقارب. الديمقراطية لافتة سمسرت بها المعارضة على بيع الأوطان للبلدان المتشدقة بالديمقراطية. الديمقراطية واجهة لأنظمة انقلبت على شعوبها بعد ان اتخذت منها سلما للوصول إلى سدة الحكم. الديمقراطية هي عنصرية وجهوية ضيقة وطائفية وعرقية عند معظم العرب.
    ولكن يبقى ما جاء ذكره في المقال أن تلك الشركات هي المسيطرة على مسار الديمقراطية خاصة في البلاد العربية وذلك في غياب أثرياء عرب تنافس تلك العابرة للقارات ولا يصدها أحد.

  6. يقول محمد طاهات / عضو في رابطة الكتاب الأردنيين:

    بسم الله الرحمان الرحيم , وبالله نستعين , وبعد .
    لقد قلت الحقيقة فنحن العرب نحتاج الى الثقافة الديمقراطية وبخاصة في الوقت الحاضر , وقت الربيع العربي والخروج من عنق زجاجة الظلم والاستبداد وحكم العسكر الذي تعيشه بلادنا , ويقوم فيها انتخابات مزيفة شكلية مبرمجة لاروح فيها ولاعدالة حقيقية ولا انتخابات حرة بحيث يترك للناخب أن يختار الرجل المناسب في المكان المناسب , وكل انتخاباتنا في الوطن العربي مسيسة ومبرمجة مع قوانين غير ديمقراطية ولاتنتج النائب الصالح أو الوزير الصالح أو الرئيس الصالح وصار الفائز معروفا سلفا ويفوز ب99,5 بالمئة , بالرغم من استبداده وظلمه وقتله شعبه بالبراميل المتفجرة ويطلب من شعبه أن يعيد انتخابه , أرأيت عدالة وديمقراطية أجمل من هذه الديمقراطية وهذه العدالة , وبالرغم من هذه الصورة المأ ساوية والحزينة فإن هنلك وعيا وادراكا واستنارة من قبل الشعب بدأ يشع نورها ودلالة ذلك عزوف الكثيرين من المواطنين عن الانتخاب , ولم أشارك في انتخابات البرلمان الأردني الأخير لعدم قناعتي بنزاهة الانتخاب ورفضي لمبدأ الصوت الواحد , والكثيرون فعلوا فعلي وتم ذلك في كثير من انتخابات الدول العربية الأخرى لذات السبب وهذه بداية الوعي والادراك والاستنارة , والأيام القادمة تبشر بالخير بالرغم من كثافة الظلام .

  7. يقول م. حسن هولندا:

    الديمقراطية نظام حكم وإطار لمشاركة الجميع في مجتمع حيوى ديناميكي غير متجمد تنشأ فية أحزاب جديدة علي قيم جديدة , يبقي منها من يواكب المتغيرات بحرية وتدعمة أغلبية ما لوقت ما بلا ولاءات , البوصلة موجهه للصالح العام والإجتهادات والخيارات تتجدد بلا توقف بحثا عن الأفضل . عكس مايحدث في بلادنا حيث يقوم أحد ” المتسلفسون ” الجهلاء بإصدار فتوى حول الإنترنيت تشبة الفيروس الذى يصيب بالجمود والتخلف العقلي والعلمي والفكرى المزمن . أظن أن الغربان أكثر منفعة للمؤمنين منه إذا علق علي شجرة .

  8. يقول S.S.Abdullah:

    العنوان يشي بالنرجسية الواضحة لكاتبة المقال
    في التنظير من علو كممثلة للنخب الحاكمة كمثقفة
    لنا نحن الرعاع والهمج وهذه مشكلة ثقافة الـ أنا التي لا تعترف بالآخر وخصوصا ممن هو خارج النخب الحاكمة في النظام الديمقراطي/الديكتاتوري.
    فالإتحاد الأوربي كان أول تجربة لتجاوز ضيق ثقافة الـ أنا والذي يمثله الدولة الحديثة في نظام الأمم المتحدة الديمقراطي/الديكتاتوري، إلى سعة ثقافة الـ نحن في نظام العولمة.
    مشكلة نظام الدولة الحديثة في نظام الأمم المتحدة، هو مفهوم أن تكون النخب الحاكمة فوق النقد أو القانون أو الدستور، كما هو الحال في الكيان الصهيوني فالنخب الحاكمة فيه فوق النقد أو القانون أو الدستور واسألوا أهل فلسطين من أمثال رائد صلاح وصحبه.
    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية