في اقتفاء أثرهن: هيلانة.. أوفيليا.. مي زيادة.. وعنايات الزيات

يقدم فيلم «عيون كبيرة» قصة حقيقية تحكي حكاية رسامة تم تهميشها من قبل زوجها الذي خدعها بادعائه أنه رسام، تزوجها عن طريق الخداع، وتأليف مجموعة من الأكاذيب شكلت وجها خفيا لهذا الزوج، استمر بحياكتها ورسمها، ومن خلال مجريات الأحداث بدأت تكتشف خِدعه، خلال سلسلة من الاكتشافات، كانت هناك محاولات كامنة للمقاومة والرفض، ولكن الكذب لا يلبث أن يكتشف ادعاءات تقوي وتدعم موقفه ليحيك حول هذه الرسامة المزيد من الأوهام ويدخلها في دائرة جعلتها في صراع بين الوجود والعدم بين الخفاء والتجلي.
ينتهي الفيلم وتتضح لنا دلالة العيون الكبيرة، بالإضافة إلى الدلالة المذكورة في الفيلم: «العيون نافذة الأرواح»، لنتعرف إلى إننا بحاجة إلى عيون كبيرة إشارة إلى أهمية اتساع نظرتنا ووعينا في البحث عن حقائق الأمور، من دون أخذ ما يدعي أنه حقيقة، على أنه موضوع مسلم به من دون بحث وتأن.
مثل قصة الرسامة المغمورة، تحدث كثيرا في عالم يمتلئ بالصمت والتهميش والغياب، ما يحيل إلى أن هناك قصصا إنسانية تستحق أن تروى أكثر من مرة، وتستعاد تفاصيلها في مناسبات عدة، وفي أزمنة تتزايد فيها الجرأة والقدرة على التعبير، تبعا لتزايد منسوب الحريات في المجتمعات المعاصرة. يحدث هذا الاستدعاء لهذه الشخصيات، إما لأهميتها المتزايدة، أو لأن هناك مكونات وتفاصيل مغيبة ومهمشة يتم استعداؤها مجددا لتحليل أبعاد ثقافية مغيبة في زمن ما. مثل استدعاء صور النساء في أزمنة سابقة وإيضاح طبيعة تفاعلها الثقافي في زمنها، وهل كانت فاعلة أم صامتة؟ وفي جانب آخر، يكون سبب الاستدعاء هو التهميش الذي طال هذه الشخصية الأدبية بسبب الهيمنة الثقافية أو السياسية، أو الذكورية في زمن ما. كما يعد هذا الاستدعاء واحداً من سمات أدب ما بعد الحداثة، ومحاولة استنطاق المسكوت عنه في حياة ومجتمعات هذه الشخصيات، التي لم تنل فرصتها في أزمنة غابرة.

إعادة قراءة صورة هيلانة

تقوم الدراسات النسوية في مرحلة ما بعد الاستعمار بدور مهم في إعادة اكتشاف تاريخ النساء، وتسليط الضوء على مناطق مظلمة وتفاصيل مغيبة لوجود النساء. تقول مارغريت آتوود في واحدة من الحوارات التي أجريت معها: «أحاول أن ألقي نظرة جديدة على الأشكال القديمة، وأعيد النظر فيها. في كل الثقافات هناك فترات وكل واحد منها تفتح نافذ، تضيء معطيات كانت موجودة سلفا لكنها كانت راقدة في الظلمات». (آتوود، 2007)
تقوم رواية «البينيلوبية» بتقويض السرديات القديمة المتعلقة بقصة هيلانة الحسناء بطلة ملحمة الأوديسة، إذ تقوم ساردة الرواية بعرض وجهة نظرها في شخصية ابنة عمها الجميلة، التي قام من أجلها الكثير من الحروب، لتبين صورة أخرى عنها متمثلة بالأنانية والغرور والطيش. تأخذ الرواية على عاتقها الجانب المهمش من أسطورة الأوديسة فتعيد الكاتبة كتابة تاريخ القصص الفرعية، مثل بينيلوب وخادماتها وتبين كيف إنهما قتلتا ظلما، وتم اتهامها زورا بخيانة زوجها أوديسيوس. الرواية تشتغل على تفكيك السردية السائدة، وعرض وجهة نظر بديلة من خلال عرض وتحليل عميق للشخصيات، وعادات وتقاليد ذلك المجتمع. هذه النزعة المابعد حداثية في إعادة كتابة الأدب ومراجعة بعض الأفكار السائدة فيه بأسلوب مشوق سلس، تفتح آفاقا متعددة للتفكير بالمسلمات، حتى لو كانت أدبية أسطورية.

أوفيليا تستعيد صوتها

تعرض مسرحية هاملت لشكسبير هذه القضية تحديدا، هامشية وجود المرأة سواء في الأم التي هي موضوع رغبة، أو في حبيبة هاملت البطلة المغيبة، أوليفيا. واحدة من أبرز الأمثلة هو استدعاء شخصية أوفيليا، وهي شخصية خيالية بحتة، في مسرحية هاملت لشكسبير التي تجتمع فيها الرؤية الفرويدية للتحليل النفسي وقوفا عند السلطة عند العم والأب والابن والأم الأوديبية والصديق والسياسي النرويجي، تقف أوفيليا في موقعها التابع للبطل هاملت ابن الملك الذي فقد حياته على يد أخيه. تبرز شخصية أوفيليا وهي تشكل فكرة الآخر السلبي في المسرحية، الآخر الضعيف المبني للمجهول. الذي يكون صدى للآخر ولا يملك أن يحرر حضوره الخاص.
تعرض Sandra K. Fischer في مقالتها المعنونة بـ»الاستماع إلى أوفيليا: الجندر والخطاب المأساوي في هاملت» «Hearing Ophelia Gender and Tragic Discourse in Hamlet» في مقالتها فكرة صمت أوفيليا وكونها مجرد انعكاس لشخصية هاملت، وفي أحد الأفلام الحديثة يحمل اسم أوفيليا المعروض عام 2019 على منصة نتفليكس مجرد انعكاس لوالدها.
تحكي المسرحية عن غياب حضور أوفيليا كفاعلة في الأحداث، حيث بقيت مجرد مستمعة لهاملت، كان دورها صامتا وخاليا من الفاعلية هي مجرد محور بنيوي صامت وأداؤها يرتبط فقط في تطور شخصية هاملت. أما أوفيليا بالنسبة لجاك لاكان فهي ضرورية، لأنها ربطت إلى الأبد بصورة هاملت. كما توضح إلين شوالتر أن تمثيل أوليفيا في المسرحية يعكس الصورة المقموعة بالنسبة لهاملت.

مي زيادة: تهاوي عرش إيزيس كوبيا

أما في الوطن العربي وفي الخمس سنوات الماضية ظهر نصان، وربما أكثر يستدعيان صورا لنساء حقيقيات قمعتهم الثقافة المهيمنة، ولعبت معهن الأقدار لعبتها مثل الأديبة اللبنانية مي زيادة (1886-1941)، والكاتبة المصرية عنايات الزيات (1936-1963). لقد ظهر كل من واسيني الأعرج بروايته «إيزيس كوبيا» التي تستحضر شخصية الأديبة مي زيادة، والشاعرة المصرية إيمان مرسال تستدعي شخصية عنايات الزيات في روايتها «في أثر عنايات الزيات» بعملية استعادة التاريخ بضوء إنساني، ويعيدان قراءة التاريخ وإنصاف كاتبات همشتهن وعذبتهن الثقافة الذكورية.
تعد تجربة واسيني الأعرج في استعادة صورة مي زيادة، والكتابة عنها مجددا تجربة لها دورها الكبير في نبش الأثر، وتعقب السنوات الأخيرة في حياتها، وتصوير لحظات الانطفاء والألم واليأس التي أصابتها، بعد أن كانت تملك كل أسباب السعادة، سحبت الحياة منها كل تفاصيل التوهج، وعصفت بها أمواج الانطفاء. بالنسبة لي، كلَّما ذُكرت مي زيادة، كنت أرى أنَّها دُرست جيّدا، وأُشبِعت درساً وتحليلاً، إلى درجة لا يمكن معها أن يكون لديها مجالٌ لباحثٍ متأخِّر، أن يضيف شيئاً إلى ما تمَّت دراسته، ولاسيَّما بعد إصدار رواية واسيني الأعرج المعنونة بـ« ليالي إيزيس كوبيا»، وتسليطه الضّوء على معاناة مي زيادة، التي أسهمت روايته في إعادة قراءة تجربتها، كما توضّح الصحافيَّة المصريَّة نوال مصطفى، في طبعة جديدة من كتابها «مي زيادة: أسطورة الحبِّ والنبوغ»: «سبعةٌ وسبعون عاماً على رحيلها، ولا تزال الصحف والدوريَّات تنشر أخباراً عنها، ويصدر الأديب واسيني الأعرج كتاباً عنها يحوي أسراراً تُنشر أوَّل مرَّة، بعد رحلة بحث مكُّوكيَّة، ومغامرة أدبية بوليسية، من أجل العثور على المخطوطة الضائعة منذ عشرات السنين، عنوانها: «ليالي العصفورية».

اسم كتاب واسيني الأعرج «ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية» (نوال مصطفى، مي زيادة). يكشف واسيني الأعرج أهمَّ تفاصيلِ محنة مي زيادة، ويكشف الآليَّة التي تمَّ من خلالها التعامل مع مي زيادة قبل محنتها، وبعدها، من خلال الوصف الدقيق الذي وسَمَ به الحداثة العربية، واصفاً إيَّاها بـ«الحداثة المعطوبة» وموصِّفاً حال رموز التنوير من رجالات الثقافة والفكر العربيِّ، الذين أتوا بأضواء الغرب ومشاعل التنوير، وإنَّما، في الوقت عينه، كانوا يحملون في دواخلهم رواسب وإرث الماضي، وصورة المرأة الدونيِّة في لاوعيهم، فتعاملوا مع مي بهذه الثنائيَّة المزدوجة، يحضرون صالونها الفكريَّ، ويناقشونها في أفكارهم، لكنَّهم، في الوقت عينه، لا يحترمون استقلاليتها، ويريدون امتلاكها، الأمر الذي قاد عائشة عبد الرحمن إلى البكاء على زرقاء اليمامة، واصفة إيَّاها بالشهيدة: «غيري يسكب الدموع لموت مي. وأنا أسكب الدمع على حياة مي، وما حياتها إلَّا قصة استشهاد طويل». (نوال مصطفى). ويبقى السؤال هنا، كيف كانت حياتها؟ قصة استشهاد طويلة؟ هذا ما حاولت رواية الأعرج أن تبين تفاصيل هذه المعاناة من خلال لياليها المضنية في العصفورية، وتأملاتها المضنية بعد خروجها من العصفورية حتى موتها.

عنايات الزيات: لماذا يجب على كل شيء أن يذبل؟

أن يستطيع السرد استعادة الصور المنسية ويعيدها مجددا إلى الذاكرة الأدبية هذا ما فعلته إيمان مرسال مع بطلتها عنايات الزيات، وهي تقتفي أثرها في روايتها المهمة «في أثر عنايات الزيات» التي حاولت أن تلملم شتات هذه الصورة المبعثرة بين ذاكرة جاهزة لاستدعائها وأخرى تعاند الذكرى والتذكر. عاشت كيت شويات حالة مشابهة ومرت بإحباط بسبب عدم تقبل النقاد لكتاباتها، كتبت قصة «الرجل المحترم من نيو أورلينز»، يقدم النص فكرة امرأة محاصرة في كنف مجتمع قمعي، اكتشفت في السبعينيات وأعيد اكتشافها في السبعينيات ولاقت كتاباتها الاهتمام اللازم.
إن إيمان مرسال وهي تكتب روايتها تستحضر نماذج من النساء كلهن عشن تفاصيل تجاهل ثقافي متعمد، انتقت واحدة من أشد هذه الحالات تغيبا وتجاهلا وهي عنايات الزيات، التي كانت معضلتها الكبرى أنها خرجت من طبقة همشت بعد الثورة المصرية. لم تجد من ينصفها في مجتمعها الأسري، ولا مجتمع المثقفين التي بدأت تطرق أبوابه، فكان الرفض والتجاهل والصمت من كهان الأدب، مثلما تسميهم مرسال، الرد الذي قادها إلى الانتحار، بعدما اقتنعت أن هذا العالم لا يرحب بها. ‬‬‬تقول مرسال: «كهان الأدب هو التعبير الذي كنت أبحث عنه منذ قرأت مقالات منصور عن عنايات، إنهم دائماً موهوبون، يتمتعون بالسلطة، ويعتبرون أنفسهم قضاة الثقافة، يريدون تشجيع المواهب الجديدة، ولكنهم للأسف مشغولون للغاية». لم تترك الكاتبة المصرية عنايات الزيات سوى رواية واحدة «الحب والصمت» ولكنها خلفت وراءها عددا من الأسئلة التي تقوض ثيمات الحضور والغياب والصمت والانتحار في ثقافة ذكورية مركزية تجيد تهميش صوت النساء وإبعادهن عن دائرة الضوء. إن الرواية وكاتبتها حرمتا من أن تكونا جزءا من أرشيف المرأة العربية المبدعة، حيث تم تجاهله حتى في الكتب التي كانت تحاول توثيق جهود النساء مثل كتاب بثينة شعبان الذي يحمل عنوان عنوانه «100 عام من الرواية النسائية العربية». لقد قام نص الشاعرة المصرية إيمان مرسال باستدعاء شخصية عنايات الزيات في روايتها «في أثر عنايات الزيات» بعملية استعادة التاريخ بضوء إنساني، يعيد قراءة التاريخ وإنصاف كاتبات همشتهن وعذبتهن الثقافة الذكورية.
عند الالتفات للرواية نفسها، نجد أنه على الرغم من أن الحكاية تقليدية، والحبكة نمطية في رواية الزيات، إلا أن طبيعة طرح الأسئلة كانت مهمة، والقصة رغم تقليديتها مشوقة، والأهم من هذا أن البطلة طوال الرواية وهي تمر بمخاض طويل لاكتشاف ذاتها وبناء شخصية إنسانية جديدة، لا تقبل الماضي قبولا مطمئنا، بل تحاول أن تقوم باختبار وتعديل مستمر لتركة الأسلاف. تقول عنايات الزيات في رواية «الحب والصمت»: «إن الواحد منا لا يموت إننا أجزاء من الطبيعة الأم ننفصل عنها بالحياة، ثم نعود إليها بالموت فتصبح الطبيعة الكل». هكذا وصلت بطلة رواية عنايات الزيات إلى الحكمة من خلال تجربتها الوجودية، ونظرة الآخر لها، التي كانت رواية دائرية بدأت بالموت وانتهت بالموت، لكنها أثبتت أن الإنسان لا يفنى. ‬بعد قراءة رواية «الصمت والحب» لعنايات الزيات، أستطيع أن أقول إن أهمية الرواية لا تكمن فقط في أنها رواية لكاتبة منتحرة، ألقت عملها اليتيم، على الكون ورحلت، بل هي رواية كاتبة نسوية وجودية في المقام الأول، ظهرت رؤيتها وأسئلتها بوضوح بقالب إنساني اجتماعي واقعي يقدم وجهات نظر متعددة.
‬‬‬‬‬‫ تسأل البطلة في الرواية:‬‬‬
لماذا يجب على كل شيء أن يذبل؟
‏لماذا لا تورق السعادة إلا لتنطفئ؟
‏ولماذا يجب علينا أن نموت؟

‏كاتبة كويتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    قال نبي الاسلام : “خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها برتك، وإذا غبت عنها حفظتك”
    و لاحول ولا قوة الا بالله

    1. يقول أحمد عزيز الحسين/ كاتب سوري:

      أظن أن هذا الحديث منحول، وأن المرأة التي عاصرها النبي لم تكن مغيَّبة، ولا مستكينة لرضا الذكور عنها، بل كانت امرأة تسعى إلى الاستقلال عن الرجل، وتعد نفسها مساوية له، ولنا في زوجته خديجة بنت خويلد، وفي حفيدته سكينة بنت الحسين مثالان دالان على ذلك؛ ذلك أن الأولى اشتغلت في التجارة، وكانت لها قوافل تجارية تذهب إلى الشام واليمن، أما الثانية فقد كان لها صالون أدبي معروف.
      ولم تكن المرأة في عصر الرسول تخجل من ذكر اسمها، أو تعده حراماً، كما بعتقد كثير من المسلمين المتطرفين، بل كانت تفخر باسمها، وتُنادَى به، وكانت تخرج من المنزل، ولم ترهن وحودها في الحياة لإمتاع الرجل، وإدخال السعادة إلى قلبه كما يظن المتشدّدون.

  2. يقول علي البرقوقي/ تطوان:

    يصعب تصنيف كتاب “في أثر عنايات الزيات “ضمن جنس الرواية.إنه بحث أكثر منه رواية. هو يجمع بين البحث والرواية.بعيدا عن كل تصنيف فهو كتاب يستحق القراءة.

إشترك في قائمتنا البريدية