فيلم «منطقة اهتمام»: الشِّعر بعد أوشفيتز وتفاهةُ الشر

حجم الخط
0

مع كل فيلم جديد عن كارثة تاريخية بعينها، يتساءل أحدنا عن مدى حساسية العمل الفني في نقل ظرفٍ إنساني متطرف، عن إمكانية هذا العمل بل ومشروعيته، فالكوارث تتخطى أيّ تمثيل فني يقاربها.
نذكر هنا مقولة ثيودور أدورنو في أن «كتابة الشعر بعد أوشفيتز يُعدّ عملاً بربرياً». الإشارة في الغالب إلى استمرارية الإنتاج الثقافي بما فيه الشعر، على صورته ذاتها لما كانت عليه قبل المحرقة، وإلى منظومة العمل الثقافي بما فيه أشدّها رهافة، كتابة الشعر.
في السينما، يمكن بسهولة أن يكون أي فيلم مادةَ استهلاك عاطفية أمام هول موضوعه، ما يحتّم على صنّاع العمل أخذ عبارة أدورنو بجدية، فهل سيكون التناول، كما هو عموم الإنتاج الهوليوودي للمحرقة، استهلاكاً للمأساة وبالتالي عملاً بربرياً؟ أم أن حساسية العمل ووعيه للمأساة، سيجعل التناول الفني لها مبرَّراً؟ بل ضرورياً في كونه قناةً تحمل سرديات الكارثة وصور أهلها، أو أصوات أهلها في فيلم جوناثان غلايزر، الشّعري بحقّ، «منطقة اهتمام».
الفيلم (The Zone of Interest) الذي خرج من مهرجان كان السينمائي «بالجائزة الكبرى» ووصل إلى أوسكار «أفضل فيلم دولي» أخيراً، عاد بالسينما إلى حقبة المحرقة النازية. والفيلم، وإن كثرت أفلام هذا الجانر السينمائي، المحرقة النازية لليهود تحديداً وليس الحرب العالمية الثانية فهذه الأخيرة جانر آخر، جاء استثناءً شعرياً، بما هو أكثر رهافةً من معظم ما سبقه، وبالتالي أقل مباشرةً وفجاجة. لم يكن الفيلم مرشِداً متحفياً ولا درساً تاريخياً ولا بياناً سياسياً، كان عملاً فنياً على شكل فيلم نقل كارثة إنسانية بحساسية، صوتاً وصورة.
ليس في الفيلم قصة يُبنى عليها، وهذا خيار سينمائي، فالقصة السينمائية تُنقل بالصورة كما بالصوت، والحوارات.
الصورة انفصلت عن الصوت هنا، وحوارات الشخصيات كانت ليومياتهم من دون أي اكتراث يُرجى تجاهها، وكان الصوت في خلفيتها هو المتن. نحكي عن عائلة لضابط نازي أنشأت بيتها بحديقة واسعة امتلأت بالزهور والثمار. سور إسمنتي يفصل بين البيت ومعسكر الاعتقال في أوشفيتز. نستمع إلى الحوارات، الأم وآخرون يزورون البيت، الضابط يجري اجتماعات، بعضها مع مهندسين يشرحون مخططات لبناء محارق حديثة. وغيرها مما كان ملئاً لفراغٍ أحدثه الصوت في الخلفية، لا العكس.

أما الصوت الممتد من اللحظة الأولى حتى الأخيرة من الفيلم، مع تفاوت في طبيعته ونوعه، حسب مواقع المَشاهد، فكان للكارثة الحاصلة على الطرف الآخر من السور، أصوات لقطارات تنقل يهوداً وغيرهم إلى المعسكر، وعمليات الحرق المصنعيّة، وصرخاتُ الضحايا، وصرخاتٌ أخرى للضحايا، وكلها في خلفية الحوارات، كما كانت أطراف المعسكر ودخان القطارات في خلفية الصورة. المتن هنا هو الصوت. في الفيلم انقلبت المعادلة السينمائية ليكون الصوت في الخلفية هو المتن، لا الصورة أمامنا. لنكتفي بتصوّر فواجع الصوت، ويكون ما نراه أمامنا، تصويراً، أقلَّ شأناً. لا يهم ما الذي تتكلم به الشخصيات، لا يهم الشر الكامن في سلوكها الروتيني وأحاديثها العادية. يشاهد أحدنا الحاصل أمامه، صورةً وحوارات، وذهنه في الخلفية، في أطراف الصورة حيث قمة برج مراقبة من المعسكر، وفي أطراف الصوت، حيث الصرخات المخنوقة، ويصنع لها مشاهدَها. ليكون المرئيُّ خلفيةً للمتخيَّل، ليكون الحوار خلفيةً لما يصل من الصرخات.
لم نرَ عنفاً ولو تفصيلياً في الفيلم، حتى ما بدا عملية اغتصاب روتينية للضابط، تدخل إلى مكتبه امرأة يهودية وتبدأ بخلع ثيابها، لا نرى منه سوى الآثار. لم نرَ عملية السرقة والمصادرة لممتلكات الأسرى، بل زوجة الضابط تجرّب معطفاً من الفرو متباهية.
بمعزل عن الصوت الآتي من بعيد، سيكون الفيلم تصويراً ليوميات أسرة سعيدة لضابط، تعتني بحديقتها، وأطفالها يلعبون ببراءة، في سلام واطمئنان تامين. وفي الطبيعة، أنهار وتلال وسهول، يمضون بهدوء حياةً تافهة، سياقها السياسي في أطراف الصوت والصورة جعلها، التفاهة، شريرةً.
لا تغيب حنة أردنت عن روح الفيلم، ليكون الأخير تمثيلاً سينمائياً لما شرحته في كتابها «أيخمان في القدس» حول «تفاهة الشر» للضبّاط والموظفين النازيين، حين يكون الشر ممارسة وظيفية روتينية لأشخاص خاضعين بدورهم إلى أنظمة تديرهم أو تدير بهم عمليات الإبادة. والأفراد هنا أقرب إلى روبوتات بمشاعر مقتولة كما رأينا، وحس إنساني معدوم، فتكون الحياة الجميلة في الحديقة المنسَّقة جيداً، لصيقةً بمعسكر اعتقال تصل أصوات مقتلته إلى مسامع البيت وأهله، وقد تعوّدوا عليها وتعايشوا معها كأمر واقع، وربما كضرورة لوجودهم هناك، بحكم عمل الضابط المشرف على المعسكر، ليكسب الشرُّ عاديّته، ينتشر في المشاعر كما تنتشر الأزهار في الحديقة. ليكون الشر أمراً تافهاً لا اكتراث خاصاً حياله.

هذا التناقض في الصوتين والصورتين، على طرفَي السور وأسلاكه، لا يسَع أحدنا إلا إحالته إلى راهننا اليوم، إلى ما قبل أكتوبر وبعده، لشدّة الإحالة وتطابق الحال في قطاع غزة المحاصَر والمحارَب والمباد، مقابل مستوطنات بحدائق ومسابح تحيط بالقطاع وتنتظر مسحه لتنتقل إلى الشواطئ، في استعادة لمجزرة الطنطورة التي كشف وثائقيٌّ تحويل مقبرتها الجماعية إلى موقف سيارات، والقرية إلى منتجع على البحر المتوسط. وغيرها من القرى المهجّرة والمبادة في الجليل، التي حوّل الاستعمار الإسرائيلي أرضها وركام بيوتها إلى حدائق لتغطي طبقةٌ من الحشائش والأشجار والزهور أيَّ أطراف لأصوات حضرت هنا قبل النكبة ومجازرها، وخلالها.
حضرت هذه الإحالة مباشرةً في خطاب قبول الأوسكار، للمخرج، غلايزر الإنكليزي اليهودي، الذي قال إن الفيلم «ليس للقول انظروا ما فعلوه في حينها، بل انظروا ما نفعله اليوم..
فيلمنا يُظهر أقصى ما يودي إليه نزع الإنسانية.. الآن، نقف هنا كرجال يدحضون يهوديتهم والمحرقة المختطفتَين من قِبل احتلال تسبب بحالة صراعٍ للكثير من الأبرياء».

كاتب فلسطيني سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية