فيلم ‘الجدار’ للمخرج جوليان رومان بولسلار: كتاب النساء والحركة البيئية المبكرة!

حجم الخط
0

الخوف من العزلة التامة هو خوف أزلي عند الانسان، فماهي حدود انسانية الانسان حين يعيش في عزلة، ماذا يتبقى من انسان أجبر، على العيش دون أي علاقات اجتماعية؟ هذه المسألة الوجودية تتعقبها مرلين هاوسهوفر في روايتها، الصادرة سنة 1963 ‘الجدار’ والتي حولها أخيرا، بعد انتظار دام عشرين سنة للحصول على حقوق التصوير، المخرج النمساوي جوليان رومان بولسلار’بنفس العنوان الى عمل سينمائي. في صيف سنة 2010 انطلق مع طاقمه المكون من ثمانية رجال كاميرا الى المنطقة الطبيعية النمساوية”زالتسكاماكود’ من اجل تكييف اجواء الرواية مع’الفيلم. فبعد أكثر من سبع سنوات من العمل المتأني المليئ بالمفاوضات، المساومات والتغيرات، التي سخرها بولسلار في تحويل رواية الجدارالى فيلم، تمت مكافئة هذا المجهود منذ عرضه الافتتاحي في مهرجان الفيلم العالمي ببرلين سنة 2012 بجائزة التحكيم كما احرزت بطلة الفيلم الممثلة الالمانية مارتينا غيدك على جائزة نقاد السينما الالمانيين، وفي سنة 2013 على جائزة مهرجان فينال النمساوي وجائزة رومي للفيلم والتلفزيون ثم جائزة الفيلم الالماني. لقد إلتزم المخرج النمساوي، إحتراما لصوت سرد’الكاتبة هاوسهوفر الهادئ، الحكيم والقدري، بالكتاب الأصلي كلية لانه كما يقول في احد اللقاءات:”كان من الواضح بالنسبة لي، أن الفيلم لا يمكنه أبدا أن يكون أفضل من الكتاب’.

قديس الحركة النسائية

لقد عمل بولسلار قبل كل شيء على أن يكون عادلا اتجاه الرواية وأن يركن الى ذلك البناء الغريب من الصراع الداخلي والمصير الخارجي، الذي جعل من امرأة مدينية قلقة، مشؤومة، انسانة تعيش دون ارادتها ابعد حالات العزلة، غير انه في نهاية المطاف جعل منها ايضا امرأة هادئة وقادرة على البقاء على قيد الحياة. فرؤية العزلة التامة، هي هاجس المجتمع الحديث المقلق، الذي تبلور موضوع ادبياته أولا على مدى فترات زمنية لتتحول ابداعاته الى أكثرها الكتب مبيعا في العالم. فقد كانت رواية ‘الجدار’ في سنوات السبعينات كتاب تقديس النساء والحركة البيئية المبكرة، كما لا يزال حتى اليوم يحرك مشاعر القارئات الوفيات للحركة. خاصة في فترة’الثمانينات شهدت الرواية تزايدا في المبيعات، وذلك أن الحركة النسائية رأت فيها تصميما لتحرر نسائي جذري، في نفس الوقت تعرفت حركة السلام في هذه الرواية على مرحلة كارثة ما بعد النووي. لقد لعب تقديم، إلكا هايدنرايش (كاتبة، ناقدة وصحافية المانية)، هذا الكتاب في برنامجها التلفزيوني ‘قراءة’، سنة 2004 دورا هاما جعل رواية هاوسهوفر تقفز مرة أخرى إلى صدارة قائمة الكتب الأكثر مبيعا. وحيث ان احداث الرواية تروى من وجهة نظر داخلية تماما، فهي لا تقدم لكاتب سيناريوأي مادة للحوار. مع ذلك فقد حاول المخرج بولسلار من خلال مادة صعبة المراس تشكيل فيلم، الذي رغم خلفية الاحداث الفقيرة، التي كانت لما يقارب خمسين سنة وراء اعتبارها رواية’غير ممكنة التحويل الى فيلم، يحافاظ على تشويقه ووتيرة توتره الداخلي من البداية حتى النهاية. فيصبح الانسان دون إرادته، وان كان ذلك يسير ببطء، طرفا من عزلة هذا العالم.
رواية ‘الجدار’ تحكي عن امرأة تبلغ من العمر أربعين عاما، تحاصر من خلال كارثة غير واضحة في واد في جبال الألب. فمن العالم الخارجي يبدوان كل حياة البشر قد توقفت، بينما تصبح المرأة مفصولة عن ذلك العالم من خلال جدار منيع من زجاج، غير مرئي . في الفيلم، تماما كما في الكتاب الأصلي، يبقى الجدار دون تفسير دائم ولا تفك خيوط الحالة، الرائعة والغريبة في ذات الوقت، التي توجد فيها المرأة وهذا يمثل نفسا إيجابيا للخيال. فصوت الراوية الصارم يحدثنا عن’قصة امرأة، تكتب مذكررات قصة عزلتها الاضطرارية بأحرف صغيرة على الورق القليل المتبقي لديها. تحدثنا بلغة مقتضبة، كثيرا ما تعكسها مشاهد رجوع الذاكرة الى الوراء لتجعل منا مشاهدين ليسوا خارج الحدث، بل داخله نقاسمها عالم عزلتها.

عزلة المكان والذات

فمضمون الرواية يستقي ثراءه من بساطته: في يوم ربيعي جميل سافرت بطلة الرواية المجهولة الاسم لقضاء عطلة في بيت صيد ريفي وسط غابات جبال النمسا العليا. بعد الوصول يذهب في المساء الزوجان مضيفاهما الى البلدة المجاورة سيرا على الاقدام، من اجل اقتناء بعض الحاجيات، غير انهما لا يعودا أبدا. في صباح اليوم التالي وعلى اثر غيابهما المتواصل، تنطلق الضيفة في معية الكلب، لمعرفة تفاصيل الحدث الذي اثار استغرابها. خلال الطريق يصطدم الكلب، الذي كان يسبقها بجدارغير مرئي اولا ثم تصطدم هي به لاحقا. قريبا يتضح أن الجدار يسيج منطقة الغابة بكاملها. بعد فترة من الزمن تتعرف من مسافة بعيدة خلف الجدار الشفاف على بعض الأشخاص القليلين، الذين ظلوا في حركاتهم جامدين، كمنحوتات بشرية أخذت منها هذه الهيئات كما يبدو في مجرى سير حياتهم اليومية.
من حين لاخر تعود الى الجدار محاولة اختراقه واختباره بانتظام، ان كان لا يزال موجودا. غيرانها مع مرور الايام تقبل عزلتها التامة وتبدأ في تنظيم بقائها على قيد الحياة، فتغرس البطاطس، تحمل البندقية وتذهب الى الصيد، تراكم العشب للبقرة، حتى يمكن لهذه الاخيرة أن تدرالحليب في فصل الشتاء ايضا. هكذا تصبح هذه المخلوقات الحية’الوحيدة الكلب، القطط، البقرة وغراب أبيض رابطتها الاجتماعية في عالم عزلتها الاضطرارية، في حين تتعاقب فصول السنة في المناظر الطبيعية الجبلية القاسية .
في فيلم”الجدار’ يحاول المخرج الذي اصبح معروفا من خلال المسلسلات التلفزيونية مثل ‘دائما وإلى الأبد’ و’مدبر الأعمال’، تبني الاسلوب السردي، الذي نهجته الكاتبة منذ البداية، حيث تجعل القارئ قريبا من النص جدا وتشده بقوة تفاصيل مشوقة ثرية بوصف التأقلم مع الحياة اليومية، هكذا يتكون لدى القارئ الارتياح الشخصي، فلا يشعر، بأن ليس هناك اي تأثير خارجي، بغض النظر عن تقلبات الطقس، التي تحث وتسهم بنجاح في البقاء على قيد الحياة.
فموضوع الجدار هو عملية طويلة، متداخلة موغلة في العديد من حوارات ذكريات الماضي. جعلها بولسلار’على قسمين’من الحوار، واحد من الصور الاخر من الكلمات. في واحد منها يرى الانسان البطلة، وهي تسير عبر الغابات المرتفعة، تحلب بقرتها، تكتب مذكراتها، تزرع حقلها بالبطاطس، او حين تقتل في النهاية رجلا، متبقيا هو الاخر على قيد الحياة، اقتحم دائرة عالمها المعزول بعد ان قتل كلبها، الذي كان عزاءها في مسار عزلتها. الاخر يصف صوت الراوية’المقفل، على حد تعبير الرواية، ذلك الذي نراه للحظة. وحول الاثنين تصدح آلة الكمان من مقطوعات باخ وتغربل أصوات الطبيعة، موسيقى تصويرية نبيلة عن الشعور بالوحدة.

الآنسانية هي أنا

فالخوف من العزلة المطلقة هو خوف الإنسان الازلي. في محيط عدائي قليلا او كثيرا، تصبح ضرورة البقاء وحيدا على قيد الحياة شرط وجود، كواحدة من الأمثلة المثيرة للإعجاب’في الادبيات التنفيذية رواية الكاتب الايطالي كيدو مرسلس ‘ديسباتيو’، العزلة، من سنوات السبعينات، حيث كانت نظرة ذكورية مقابلة العمل الذي سبق’وكتبته مارلين هوسهوفر. على الارجح’أن أهم فارق بين السردين، هو الالحاح على تقييد حرية التنقل في رواية الجدار. في حين أن الأنا الذكوري للراوي في رواية العزلة يمكنه كاخر رجل ان يتحرك بحرية على الأقل. هل البقاء الانثوي على قيد الحياة في منطقة محاصرة هو سجن فعلا من خلال جدار شفاف غير مرئي يبدو منيعا في قطعة أرض غابوية محدودة. حتى في نهاية هذا الزمن الخيالي للرواية لا تتخلص المرأة من عدم الحرية الإضافي، على الرغم من العديد من القيود التي يخضع لها الانسان، فالمرأة ما زالت تعاني تحت قيد آخر يحد من حريتها، التقييد من قبل الرجل، ربما كان هذا هو السبب الحاسم، الذي جعل رواية’الجدار تنال عند ظهورها’كل ذلك الاهتمام الكبيرا جدا.’
أنها’ قصة قطتها’: يقال ان الكاتبة قدمت المخطوط الى الناشر بعبارة ‘ هذه قصة قطة’، في الواقع فالموضوع كثيرا ما يتعلق بالقطط وحيوانات آليفة أخرى. لكن في المركز يقف إنسان، امرأة، التي وجدت نفسها ذات صباح فجأة وحيدة في العالم، مثل بطل رواية كويدو مرسلس العزلة، غير انه بعد محاولة الانتحار، عرف كذلك انه’الموجود الوحيد.
فضمير الراوية المتكلمة عن أنا في العزلة الإنسانية، يستخدم الفرصة لاستكشاف’محيطه الممتد، انه يشمل الصورة الداخلية للحضارة، المدينة. انه يجدها مفيدة في كسر النمو’النباتي عبر الخرسانة، رؤية الطبيعة في الدفاع عن حقها، في أن تستعيد، ما أخذ منها. ومع ذلك، فإنه لا يزال إلى حد كبير يعكس التجريد، الذي يقبع فوق ذروة التفكير: ‘فالإنسانية هي أنا’. مختلفة تماما عن بطلة رواية الجدار. إنها تعيش مجبرة على الحياة مع وايضا من المخلوقات، ولكن في المقام الأول التي معها، فحلب البقرة عليه ان يحرر هذه الاخيرة من آلامها. كما انه مؤثر أيضا اعتناؤها بالحيوانات الأخرى. انها تعيش تماما في المجسم، وتفكيرها يتماسك إلى حد كبير وتحديدا، إذا هي فكرت في أصدقائها وأقاربها. لكن دائما يتضمن تقاربا وتباعدا كبيرا: ‘يمكنني أن أسمح لنفسي بكتابة الحقيقة، فكل الذين كذبت عليهم’اكراما لهم، ماتوا’. بعد سنتين، بالكاد فكرت بطلة الرواية في، امكانية العثور عليها، إنها تشعر، ‘أن الأمل في داخلي قد مات. ذلك يخيفني’. هذا يبرر ‘النفور العنيف من أحلام اليقظة’ ويؤدي إلى رباط وجود ثابت بحياتها اليومية الجديدة، التي أصبحت من مدة روتينية في تغير فصول السنة. فالموسم الجديد على المراعي الجبلية العالية يبدأ كالعادة دائما هادئا.
هذا الجهد في فك تداخلات خطاب الرواية رغم بساطة حكيها يراه الانسان في الفيلم. حيث لا يوجد أي إعداد في ‘الجدار’ لا يتم بذوق متوازن، لا الغابات ولا المناظر الطبيعية الجبلية اوالداخلية ولا السماء المرصعة بالنجوم، تبقى دون دغدغة الإحساس بالجمال الاسر. ولكن تحديدا في هذا الكمال يكمن أيضا ضعف فيلم بولسلار. انه ثمل بصوره الذاتية، قبل أن يجعلنا ثملين نحن الاخرين من الانتشاء. فقد اتخم نظره من مناظر جبال الألب، حتى قبل ان يحدث ذلك الذي حدث هناك، وصار حقا حدثا ساريا. انه يتمسك بمشروعه، ‘كما لو كان قارب نجاة وليس الضفة، التي منها نفر’.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية