فورين أفيرز: واشنطن والقادة العرب يمارسون اللعبة القديمة في التعامل مع “الشارع العربي” ويتجاهلون الغضب القادم

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

لندن – “القدس العربي”:

نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا لأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن، مارك لينش، قال فيه إن تجاهل الأنظمة في الشرق الأوسط وأمريكا للغضب الشعبي ضد الحرب في غزة سيعرضها للخطر.

فمنذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، اهتزت منطقة الشرق الأوسط باحتجاجات حاشدة. لقد تظاهر المصريون تضامنا مع الفلسطينيين مخاطرين بسلامتهم الشخصية، ونزل العراقيون والمغاربة والتونسيون واليمنيون إلى الشوارع بأعداد هائلة. وفي الوقت نفسه، كسر الأردنيون الخطوط الحمراء التي طال أمدها من خلال الزحف نحو السفارة الإسرائيلية.

واشنطن تتعامل مع هذه التعبئة الجماهيرية بدون اهتمام لاعتقادها أن الزعماء العرب “هم من بين أكثر ممارسي السياسة الواقعية خبرة على مستوى العالم”

ويقول لينتش إن واشنطن تتعامل مع هذه التعبئة الجماهيرية بدون اهتمام لاعتقادها أن الزعماء العرب “هم من بين أكثر ممارسي السياسة الواقعية خبرة على مستوى العالم، ولديهم سجل في تجاهل مطالب شعوبهم. ورغم أن الاحتجاجات كانت كبيرة، إلا أنه كان من الممكن السيطرة عليها”. ولطالما شجع الرئيس المصري السابق حسني مبارك وغيره من الزعماء الاحتجاجات حول معاملة الفلسطينيين، الأمر الذي سمح لشعوبهم بالتنفيس عن غضبهم وتوجيه غضبهم نحو عدو أجنبي بدلا من الفساد وعدم الكفاءة الداخلية.

وقال لينتش إن صناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لديهم أيضا، تاريخ طويل من تجاهل الرأي العام في الشرق الأوسط أو ما يسمى بالشارع العربي. فالزعماء العرب المستبدون هم من يتخذون القرارات، فليس من الضروري إذن أن نفكر في ما يصرخ به الناشطون الغاضبون.

 وعلى الرغم من كل حديثها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت واشنطن دائما أكثر ارتياحا في التعامل مع المستبدين البراغماتيين أكثر من التعامل مع الجماهير التي تعتبرها حشودا متطرفة وغير عقلانية.

وتعززت رغبة الولايات المتحدة في تجاهل المخاوف الشعبية بذكرى عام 2003، عندما كان الرأي العام العربي ضد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، ولكن أغلب زعماء المنطقة تعاونوا مع الغزو ولم يتخذ أي منهم خطوات لمعارضته. وعلى الرغم من عقود من الاحتجاجات الجماهيرية المتكررة ضد الإجراءات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، حافظ الأردن ومصر على معاهدات السلام مع إسرائيل، حتى إن مصر شاركت بنشاط في حصار غزة. وتأكدت رؤية أمريكا “الخاطئة” عندما لم ينفجر الشارع العربي بسبب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

ويعتقد الكاتب أن قناعة أمريكا هذه اهتزت لفترة وجيزة بسبب الانتفاضات العربية عام 2011، لكنها عادت بكامل قوتها مع استعادة الأنظمة الاستبدادية سيطرتها في السنوات التالية.

ويبدو أن هذا هو ما تتوقعه الولايات المتحدة وأغلب المحللين السياسيين هذه المرة أيضا. وعندما ينتهي القصف أخيرا، ستعود الحشود إلى بيوتها وتجد أشياء أخرى تثير غضبها، ويمكن أن تعود السياسة الإقليمية إلى طبيعتها.

ويعلق الكاتب أن هذه الافتراضات تعكس سوء فهم جوهريا لأهمية الرأي العام في الشرق الأوسط، فضلا عن قراءة خاطئة عميقة لما تغير حقا منذ انتفاضات عام 2011.

ويبدأ سوء الفهم باستخدام صناع السياسات مصطلح “الشارع العربي” لتقليص الرأي العام الإقليمي إلى مجرد صخب جماهيري غير عقلاني ومعاد وعاطفي قد يتم استرضاؤه أو قمعه ولكنه يفتقر إلى تفضيلات أو أفكار سياسية متماسكة. ولهذا التعبير جذور عميقة في الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي، وقد تبنته الولايات المتحدة عندما دخلت الحرب الباردة.

 وأشار الكاتب للنقلة التي حدثت قبل عام 2011، في مفهوم الشارع العربي خلال ما يسمى بالحرب الباردة العربية في الخمسينيات، عندما حقق القادة الشعبويون العرب نجاحا كبيرا في تعبئة الجماهير ضد الحلفاء الغربيين المحافظين باسم الوحدة والدعم العربي للفلسطينيين، وعندما كانت خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر الإذاعية تحرك الجماهير في شوارع العالم العربي بما في ذلك الأردن. وخلصت واشنطن إلى أن الشارع العربي كان خطيرا، مما خلق فرصا للسوفييت. إذن، لم يكن من المفترض أن يتم التفاهم مع هذه الشعوب، بل يجب السيطرة عليها بالقوة.

أدى ظهور استطلاعات الرأي العام المنهجية والعلمية في تسعينيات القرن العشرين إلى توفير قدر كبير من الوضوح بشأن الفروق الوطنية، والمواقف المتغيرة استجابة للأحداث

ويمضي الكاتب قائلا إن فكرة الشارع العربي تغيرت إلى حد ما في التسعينيات والعقد اللاحق. ظهرت القنوات الفضائية، وخاصة قناة الجزيرة، في هذه العقود وشكلت الرأي العام العربي. وقد أدى ظهور استطلاعات الرأي العام المنهجية والعلمية في تسعينيات القرن العشرين إلى توفير قدر كبير من الوضوح بشأن الفروق الوطنية، والمواقف المتغيرة استجابة للأحداث، والتقييمات المتطورة للظروف السياسية. لقد سمح ظهور وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة واسعة من الأصوات العربية بكسر سيطرة وسائل الإعلام وتحطيم الصور النمطية من خلال تحليلاتها المباشرة ومشاركتها التفاعلية. وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بذلت واشنطن جهدا كبيرا في حرب أفكار، تهدف إلى مكافحة الأفكار المتطرفة والإسلامية.

 ومن الواضح أن الانتفاضات العربية في 2011 لم تكن مجرد ثوران لشارع عربي طائش. بل إن الثوريين الشباب الذين استحوذوا على روح العصر أعربوا عن انتقادات مدروسة وحاسمة للحكام المستبدين، وحتى الإسلاميون في وسطهم تحدثوا بلغة الحرية والديمقراطية. وفي البداية، تسابقت الحكومات الغربية للتعامل مع هؤلاء القادة الشباب المثيرين للإعجاب وحاولت دعم جهودهم لتحقيق التحولات الديمقراطية وأنظمة سياسية أكثر انفتاحا.

لكن مثل هذه الدروس سرعان ما تم نسيانها مع استعادة الأنظمة العربية السيطرة من خلال الانقلابات العسكرية، والقمع واسع النطاق. لقد ساعد المستبدون في جميع أنحاء المنطقة المستبدين الآخرين على استعادة قوتهم، ووقف الغرب ببساطة موقف المتفرج.

منذ عام 1991 وحتى وقت قريب، قامت واشنطن برعاية عملية السلام جزئيا لأن القادة الأمريكيين كانوا يعتقدون أن تقديم حل عادل للفلسطينيين أمر ضروري لإضفاء الشرعية على التفوق الأمريكي. ومع ذلك، تجاهلت إدارة الرئيس دونالد ترامب ببساطة الرأي العام الفلسطيني والعربي عندما توسطت في اتفاقيات إبراهام.

وعلى الرغم من الخطاب الواعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية، تبنى الرئيس الأمريكي جو بايدن بكل إخلاص نهج ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط، ودفع إلى التطبيع العربي الإسرائيلي وتجاهل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبعد تنصيبه في عام 2021، تخلى بايدن عن وعوده بوضع حقوق الإنسان في المقام الأول، بخاصة مع السعودية وحرب اليمن. وبدلا من ذلك، سارع بيأس غير لائق لإكمال سياسة ترامب للتطبيع مع إسرائيل دون حل القضية الفلسطينية من خلال تأمين اتفاق مع السعودية.

وليس من قبيل المصادفة أن هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر تزامن مع ضغوط إدارة بايدن الكاملة من أجل التوصل إلى اتفاق تطبيع سعودي في خضم استفزازات غير مسبوقة من قبل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية. كانت هناك مؤشرات كثيرة على الاستياء العربي من التطبيع وتحذيرات لا حصر لها من انفجار وشيك في غزة، لكن واشنطن تجاهلتها باعتبارها مجرد مثال آخر على الاحترام المضلل لشارع عربي اعتقدت أن حلفاءها المستبدين يمكنهم السيطرة عليه. وكانت مخطئة في ذلك.

القادة العرب يهتمون بشيء واحد أكثر من أي شيء آخر: البقاء في السلطة. وهذا لا يعني فقط منع الاحتجاجات الجماهيرية التي تهدد النظام بشكل واضح، بل يعني أيضا الانتباه إلى مصادر السخط المحتملة والاستجابة عند الضرورة لتفاديها. ومع معاناة كل دولة عربية تقريبا خارج منطقة الخليج من مشاكل اقتصادية حادة، وبالتالي ممارسة أقصى قدر من القمع، يتعين على الأنظمة أن تكون أكثر حذرا في الاستجابة لقضايا مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

القادة العرب يهتمون بشيء واحد أكثر من أي شيء آخر: البقاء في السلطة

واليوم، من الواضح بشكل صارخ أنه كان من الخطأ أن تفترض الولايات المتحدة أنها تستطيع تجاهل الرأي العام العربي بشأن معاملة الفلسطينيين. والواقع أن العرب لم يفقدوا اهتمامهم بهذه القضية. بل إن المستوى الناتج من التعبئة والغضب الشعبي يتجاوز الغضب الذي اندلع في عام 2003 بسبب الغزو الأمريكي للعراق، ومن الواضح أنه يؤثر على سلوك أنظمة المنطقة.

وقد توحدت وسائل الإعلام العربية، التي كانت مجزأة ومستقطبة سياسيا بشدة خلال الحروب السياسية داخل المنطقة في العقد الماضي، إلى حد كبير في الدفاع عن غزة. لقد عادت قناة الجزيرة، لتعيش أيام مجدها من خلال تغطية الفظائع هناك على مدار الساعة، حتى مع مقتل صحفييها أثناء القتال على يد القوات الإسرائيلية. إن الصور ومقاطع الفيديو الصادرة من غزة تطغى على الدعاية التي تقدمها إسرائيل والولايات المتحدة وتتجاوز بسهولة التغطية الخافتة التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية. الناس يرون الدمار كل يوم يواجهون مشاهد مأساة لا تصدق. وهم يعرفون الضحايا بشكل مباشر. إنهم لا يحتاجون إلى وسائل الإعلام لفهم رسائل الواتساب من سكان غزة المذعورين أو لمشاهدة مقاطع الفيديو المرعبة المنتشرة على نطاق واسع على تيليغرام.

بل وتبنى عالم الجنوب فكرة الناشطين والمثقفين العرب حول طبيعة الهيمنة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وهذه الحجج تدخل الخطاب الغربي بطرق جديدة. وكانت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، سببا في نشر العديد من هذه الحجج في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وداخل المنظمات الدولية. وقد فعلت ذلك من خلال الإشارة ليس فقط إلى تصريحات القادة الإسرائيليين، بل أيضا إلى الأطر المفاهيمية حول الاحتلال والاستعمار الاستيطاني التي طورها المثقفون العرب والفلسطينيون. إن حرب الأفكار التي سعت الولايات المتحدة إلى شنها في العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر، بدعوى جلب الحرية والديمقراطية إلى منطقة متخلفة، قد عكست مسارها، حيث أصبحت الولايات المتحدة في موقف دفاعي بسبب نفاقها في المطالبة بإدانة حرب روسيا على أوكرانيا ودعم حرب إسرائيل على غزة.

ويحدث كل هذا في عصر يتسم، حتى قبل الحرب بين إسرائيل وحماس، بتراجع تفوق الولايات المتحدة وتزايد استقلال القوى الإقليمية.

إلا أن دعم واشنطن غير المحدود لإسرائيل في تدميرها لغزة، أدى إلى وصول العداء طويل الأمد للسياسة الأمريكية إلى ذروته، وأثار أزمة الشرعية التي تهدد كامل صرح التفوق التاريخي للولايات المتحدة في المنطقة. من الصعب المبالغة في تقدير مدى تحميل العرب الولايات المتحدة المسؤولية عن هذه الحرب. ويمكن رؤية مدى هذا الغضب الشعبي في فك ارتباط عدد كبير من العاملين الشباب في المنظمات غير الحكومية والناشطين عن المشاريع والشبكات المدعومة من الولايات المتحدة والتي تم بناؤها على مدى عقود من الدبلوماسية العامة، وهو التطور الذي أشارت إليه أنيل شيلين في استقالتها المبدئية من منصبها كموظفة للشؤون الخارجية في وزارة الخارجية في آذار/ مارس.

ولا يزال البيت الأبيض يتصرف وكأن لا شيء من هذا يهم حقا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية