فن الشارع

هذا كتاب يأخذني بعيدا لبعض الوقت عن الكتب السياسية، أو حتى الأدبية، التي تشغلني دائما.. كان آخر ما قرأت في الموسيقى والغناء كتاب الفنانة فيروز كراوية «كل دا كان ليه» عن تاريخ الغناء وتطوره عبر أكثر من قرن من الزمان، منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ونهاية «عصر العوالم» وظهور قوالب جديدة تصدرت المشهد، ومطربين وملحنين جددا مثل، أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، حتى الوصول إلى حقبة «الراب». جاء هذا الكتاب عن موسيقى الشارع، أو الراب مخصصا لها من الباحث والكاتب الشاب سيد عبد الحميد، الصادر عن «دار صفصافة» منذ أسابيع، ليأخذني بعيدا عن الهموم.
عشت حياتي أعرف أن هناك فرقا بين موسيقى الحياة وطربها، وموسيقى العشوائيات وطربها، أو ما تحت الأرض. هذا يمضي إلى مكانه: النسيان، رغم أنه قد يشغل الفضاء كله يوما، لكن في السنوات الأخيرة ظهر فن «الراب» في مصر، سواء متأثرا بالخارج، أو نتيجة طبيعية للتغير في ذائقة الجمهور، وظهور منصات التواصل، التي اتسعت معها مساحة المستمعين.
لم يكن احتلال فناني «الراب» لهذه «المساحة» الكبيرة من الجماهير تعبيرا عن عشوائية الحياة، بقدر ما كان فيهم جرأة على كسر تابوهات مختلفة من الأفكار. هناك خلفية ثقافية للكثيرين من هؤلاء المغنين. هم عادة مؤلفون للأغنيات نفسها، أو واضعو موسيقاها، ما يجعلهم أبعد عن فكرة العشوائية، التي سادت في الحديث عن هذا الغناء. الصدفة وليس الاهتمام المقصود جعلني استمع إلى بعضهم. رأيت كم الاهتمام الكبير، الذي يتجاوز الملايين من متابعيهم، ومن ثم جاء اهتمامي بقراءة هذا الكتاب، كنوع من المعرفة، بما هو غائب عني، أو كيف أصبح لهذا الغناء هذه «المساحة» العظيمة من المستمعين.
الكتاب عنوانه «فن الشارع – حكايات عن كتابة الراب والموسيقى» وهو أعمق من مجرد الحكايات، ففيه شرح وتفسير وتحليل لظروف نشأة هذا الفن، ولماذا اتسع في الحياة. تعرف منه كيف تطورت هذه الموسيقى وهذا الغناء في موجات متتالية. كانت الموجة الأولى بين عامي 2003 – 2007، وكان ظهور المغنين لهذا النوع فيها خافتا. ثم الموجة الثانية 2009 ـ 2014، واقترنت بظهور أسماء جديدة وأفكار أكثر حيوية، لفتت الانتباه أكثر مع بدايات صعود المنصات الموسيقية ومواقع التواصل الاجتماعي، بعد الربيع العربي. ثم جاءت الموجة الأشهر والأكثر نضجا بداية من 2017 وبداية صعود «موسيقي الترابtrap music » منبثقة عن موسيقى «الراب».
الكتاب، وهو يبحث كيف ولماذا تصدرت هذه الموسيقى المشهد، يقف عند كل مرحلة من هذه المراحل. وعبره تعرف كيف لا ينفصل «الراب» عن الواقع، رغم فانتازية أفكاره، وكيف هو ابن لتجربة كل مطرب أو موسيقي، أو مؤلِّف منهم في الحياة.. الخلفية الثقافية، التي جاؤوا منها، رغم شعبيتها، وكيف صاروا محل إعجاب طبقات متعددة. «الراب» هو شكل موسيقي متفرع عن «الهيب هوب» الذي ظهر في أمريكا، احتجاجا على اضطهاد البيض للسود.. هكذا بدأ في أمريكا، رغم أن البعض يقول إنه ظهر في غيرها. المهم أنه انتشر في كل بلدان العالم.
يعتمد «الراب» على الإيقاع السريع للكلمات والموسيقى، للخروج بالأغنية أو «التراك» في أفضل صورة. يعتمد مطربو «الراب» على الجمهور أكثر من النقاد. وقد أصبح أكثرهم يتصدر المشهد بالفعل، ويتم استخدامهم في إعلانات عن أشياء كثيرة، كما نرى في إعلانات التلفزيون وغيره. هم عموما يعبرون عن ذاتهم بكل جوانبها، ويسلطون الضوء على السلبيات.. يمدحون ذواتهم ويفخمونها كأنهم محور العالم الحقيقي.
يتناول الكتاب على مهل أهم مطربي «الراب» في مصر. يبدأ بأحمد ناصر المعروف بالجوكر، وهو من أوائل مغني «الراب» مولود عام 1992. وبالمناسبة كلهم ولدوا في الفترة نفسها، بعدها أو قبلها بقليل.. نعرف أنه بدأ شاعرا بالفصحى، لكنه اتجه للقصيدة العامية أو «الراب» وإيقاع موسيقي كلاسيكي هادئ. وفي أغانيه رمزيات يكسر بها «التابوهات». نعرف حياته ودراسته وتعاونه مع الموزع الموسيقي الشهير حسن الشافعي، ونعرف نماذج من أغانيه، ثم توقفه فترة طويلة عن الغناء وسر ذلك.
يستمر الحديث عن مروان موسى، الذي فاز عام 2023 بثلاث جوائز من أصل أربع جوائز ترشح لها في «مهرجان أفريما» في دورته الثامنة، عن مجمل أعماله، التي كان أبرزها الألبوم المصغر «عقد احتراف».. ومروان موسى من مواليد 1995 مصري ألماني الجنسية، درس الإخراج في إيطاليا، وتخرج عام 2016، ودرس الهندسة الصوتية، تمهيدا لدخوله عالم الموسيقى. والعداوة بينه و«أبيوسف» مغني «الراب» الشهير، و«التراكات» التي عبرت عن ذلك. المعارك دائمة بينهما، فكل واحد يبحث عن النجومية سابقا غيره.
نأتي لـ«ويجز» الذي عرفت أنه من مواليد حي الورديان في الإسكندرية، الحي الذي كان طريقي، وشغل كثيرا من حياتي وأنا تلميذ في مدرسة طاهر بك الإعدادية، أو سنوات عملي العشر في الترسانة البحرية في ما بعد، وأعرفه شارعا شارعا، والشارع موجود في روايات لي مثل «بيت الياسمين» و»الإسكندرية في غيمة» و»السايكلوب» وفيه مقهى خفاجي صاحب التاريخ الثقافي، وفيه معظم أصدقاء العمر، يطول الحديث عنهم، وعاصرته حتى تغير تماما. كان منه طبعا الفنان الراحل محمود عبد العزيز رحمه الله، ابن مدرسة طاهر بك الإعدادية أيضا، والورديان الثانوية، قبل أن يلتحق بكلية الزراعة.
أسعدني والله أن «ويجز» من حيْ الورديان، الذي كتبت عنه الكثير من المقالات، أرثي فيها زمنا ولّى.. هي شوفينية إسكندرية لا بأس، على طريقة «الراب». طبعا هنا أزمة الإسكندرية المنسية أمام القاهرة، رغم ما فيها من مواهب كبرى، وكيف طالت «ويجز» وكان لا بد من الرحيل إلى القاهرة، ومنها إلى العالم.. كيف نجح «ويجز» في صناعة موجة خاصة به، ولون جديد يميزه، ليتصدر المشهد عام 2020 بأغنية «دورك جاي» وكيف ذاعت شهرته في العالم العربي والعالم، وتفاصيل ذلك.. حديث عن مراحل «ويجز». من المرحلة الأولى، حيث اليأس، وهنا يأتي اسم الكاتب فرانز كافكا في عدة «تراكات».. كافكا طبعا يذكرك بالكوابيس.
«كلامي سودوي براب في سرداب..
أكني بترجم لكافكا كلام»
ما كان وراء ذلك من طفولة عاشها بين أب وأم منفصلين وغير ذلك. هكذا تمشي مع نجاحه ومراحله، وكيف كان ظهوره في الإعلانات وبعض الأفلام..
ننتقل إلى مروان بابلو لأعرف أنه ابن الاسكندرية كذلك، ومنطقة الحضرة التي يطول حديثي عنها أيضا، وعن كثير من أعلامها في كل مجال.. اسمه المستعار من قبل «داما» قبل أن يتحول إلى بابلو، وهو من مواليد 1996.. ظهوره واعتزاله أحيانا، ثم ظهوره، وكيف أثر في الجيل الحالي من مغنيي «الراب» أو «التراب» وكيف وصل «تراك» (غابة) الذي تم إطلاقه عام 2021 إلى المركز العاشر في قائمة «الترند» العالمي. تجد في الكتاب آخرين مثل راشد السكندري أيضا، صانع الموسيقى. أحب الموسيقى، لكنه لم يغن، لأن صوته، كما قال، ليس جيدا. كذلك المغني شاهين، الذي ظهر في فيلم «ميكروفون» عام 2010، واسمه أحمد شاهين، من مواليد 1991 في الإسكندرية.. نتابع رحلاته بين القاهرة ودبي، لنصل إلى «أبيوسف» أو «أبيو» الذي يشغل أكبر مساحة في الكتاب.. خصائص غنائه وتطوره، وكيف يكمن سر قوته في فنيات الكتابة، وصناعة معجم لغوي كامل خاص به.. كيف يكتب الأغاني ولا يهتم بردود الفعل، فهو يقول في «تراك» (سلبي): «عزيزي القارئ تأليفي هابط.. خبّط فيه براحتك.. أنا إيزي تارجت».. شخصياته التي أخذت أسماء عديدة مثل بونكيو ـ رعد ـ هاني ـ عزرائيل ـ مازن ـ عمر حرب وهيثم، وخصائص كل شخصية.
في النهاية يظل السؤال كيف ما تزال نقابة الموسيقيين، بعد هذا النجاح الهائل للراب، غير متفاعلة مع أصحابه؟ تراهم خارج السرب التقليدي، بينما هم يستمدون قوتهم من كونهم خارج السرب، بكلماتهم وموسيقاهم المتحركة خارج المتوارث من المعاني والإيقاع.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية