فن الخط العربي في تونس يتجدد بـ«فيض حروف» طارق عبيد

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: مع استقرار الإسلام في تونس وانتشاره بين ساكنة البلاد منذ القرن الأول للهجرة، ظهر الميل لتوظيف الخط العربي ليس فقط لكتابة المصاحف والآيات القرآنية وتدوين الكتب والمخطوطات، بل أيضا للزينة والزخرفة والنقش على الجدران والأثاث وغيره. وساهم في هذا الميل إلى توظيف الخط العربي في التزويق، التشدد الديني الناتج عن فتاوى بعض الفقهاء بتحريم رسم الكائنات الحية، فتم بذلك الانصراف عن رسمها إلى التفنن في كتابة ونقش الآيات القرآنية وهو ما ساهم في تطور فن الخط العربي في أرض الخضراء طيلة قرون.

مدرسة القيروان

وتشهد آثار دولة الأغالبة في القيروان، ودولة الفاطميين في المهدية والقيروان، ومن بعدهم الصنهاجيون في القيروان أيضا، والحفصيون والعثمانيون والمراديون والحسينيون في مدينة تونس، على إبداعات الخط العربي سواء في النقوش أو في الكتابات. وكانت هذه الكتابات الفنية المزخرفة، التي تفنن مبدعوها في أشكالها، تتم على الجدران والخشب في الأماكن العامة والخاصة بالنسبة إلى النقوش، وعلى الجلد وأيضا على ورق خاص يشبه ورق البردية الفرعوني بالنسبة إلى المدونات والمخطوطات والكتب. ومن بين الخطوط التي تم استعمالها في تونس في مختلف النقوش والكتابات عبر التاريخ، الخط الكوفي المشرقي، والخط المبسوط الأندلسي والمجوهر وغيره، بالإضافة إلى الخط التونسي أو المغربي الذي ظهر في مدينة القيروان التونسية عاصمة ولاية بلاد المغرب الإسلامي خلال فترة الأمويين ومرحلة هامة من دولة العباسيين، وعاصمة دولة الأغالبة وعاصمة فترة من الدولة الفاطمية بدأت عهد الخليفة المنصور وانتهت زمن المعز لدين الله، وعاصمة دولة الزيريين أو الصنهاجيين. ولعل أهم الآثار والإبداعات الفنية القيروانية على الإطلاق في مجال الخط العربي، هو المصحف الأزرق الشهير، الذي كتب بماء الذهب، بالإضافة إلى ما يضمه جامع عقبة بن نافع في المدينة، وهو أهم مساجد شمال أفريقيا على الإطلاق من حيث القيمة الاعتبارية، من نفائس في مجال الخط العربي.

على خطى الأقدمين

وبعد عقود من الركود لم تعرف فيها تونس إبداعات فنية تذكر في مجال الخط العربي، بسبب انتشار المطابع وظهور أنماط أخرى من الزينة وافدة من أوروبا كسرت حاجز منع تصوير الكائنات الحية، بدا في السنوات الأخيرة وكأن هناك عودة إلى هذا الموروث التاريخي والحضاري للخط العربي من قبل البعض للعمل عليه سيرا على خطى الأقدمين، وذلك بالاقتصار على مواصلة ما بدأوه منذ قرون ومحاكاتهم فيما أنجزوه من أعمال. كما قام البعض الآخر بالتجديد في هذا النمط الزخرفي العريق من خلال جعله فنا تشكيليا بكل ما للكلمة من معنى بإخراجه من دائرته الضيقة من خلال تحويل الحروف التي كانت محور اللوحة الفنية وأساسها إلى مجرد عناصر وأدوات لتشكيل هذه اللوحة.
لقد تحول الأمر مع هؤلاء من الكتابة بحروف جميلة إلى استعمال هذه الحروف في رسم كل شيء، حتى في رسم الكائنات الحية التي كانت محظورة دينيا، والتي ساهم غيابها عن اللوحة التشكيلية في ازدهار فن الخط في عصر ما. وكأن الحرف يعتذر من الكائن الحي الذي أزاحه طيلة قرون وحل محله، ها هو الحرف نفسه اليوم من يشكل هذا الكائن من جديد في لوحات رائعة تعبر عن التجديد والإبداع في فن الخط العربي.

إقبال لافت

وتندرج في هذا الإطار لوحات الخطاط التونسي طارق عبيد المعروضة حاليا برواق صلاح الدين بمنطقة سيدي بوسعيد السياحية بضواحي العاصمة تونس، ويحمل المعرض عنوان «فيض الحروف». وقد بدأ المعرض يوم 6 كانون الثاني/يناير ويتواصل إلى يوم 28 من الشهر نفسه في فيض حقيقي من الحروف والكلمات المنسابة والتي شكلت جملا وحكما وأبياتا شعرية غاية في الروعة.
وقد شهد المعرض حضورا لافتا من كل الفئات العمرية وخصوصا الأطفال الذين دفع بهم الفضول لاكتشاف عالم الجمال الفني والإبداع وتشكل الحروف في رواق فني يقع في واحدة من أجمل وأشهر بقاع العالم حسب تصنيفات أغلب الجهات المختصة في السياحة والأسفار. ويبدو أن اختيار بلدة سيدي بوسعيد التونسية أو رأس قرطاج كما كانت تسمى في السابق، كان أمرا موفقا لأنه المكان الأكثر تعبيرا عن التمسك بالأصالة والعراقة من خلال اللغة العربية وحروفها الجميلة التي مثلت أحد عناوين الهوية عبر العصور.

تجديد بالجملة

لقد رأينا في لوحات طارق عبيد تجديدا بالجملة، رأينا فيها تشكيل الخط لذات بشرية على شكل امرأة ترقص رقصة المتصوفة والعشق الإلهي على ما يبدو، وفي هذه اللوحة تحديدا الكثير من الإبداع والذوق الراقي لهذا الخطاط التشكيلي إن جاز التعبير وصحت التسمية. وفي مجال التصوف دائما ومن معجمه، ظهرت في هذا المعرض لوحة فيها بيت لابن عربي وقد تشكل البيت «يدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب دينه وإيمانه» فيما بقية القصيدة بصدد التشكل في رحم اللوحة الذي يعج بالحروف.
كما رأينا في هذا المعرض قصيدة للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي كما لم نرها من قبل من ديوانه «أغاني الحياة» وقد تشكلت وباتت لوحة «عذبة، كالطفولة، كالأحلام، كاللحن الجميل، كالصباح الجديد، كابتسام الوليد» على حد تعبير الشابي في قصيدته الشهيرة التي تغنى فيها بالمرأة. وفي اللوحة ذاتها حروف تشكلت وعبرت عن ذاتها وعن المعنى، وأخرى تتشكل وبدأت تتوضح معالمها تدريجيا، فيما توجد فئة ثالثة من الحروف يبدو أنه لم يؤذن لها بالتشكل في رحم الحروف والكلمات الذي يتسع للنظم بلا نهاية.

في رحاب الألوان

ومن مظاهر التجديد في لوحات طارق عبيد أيضا إقحام الألوان والتركيبات الجديدة والتصاميم الهندسية والزخرفية التي تناغمت جميعا واندمجت لتقطر إبداعا في عالم الخط الذي اعتدنا فيه على لون أو لونين في أقصى الحالات، لون المساحة من جهة ولون الحروف من جهة أخرى. كما لم نعتد لدى الخطاطين وجود كل تلك التركيبات والأشكال، فقد كان الحرف وحده سيد اللوحة دون أن تحتمل لوحته وجود المزيد من العناصر والشركاء الذين رضخ لهم الحرف في نهاية المطاف واندمج وإياهم.
لوحات طارق عبيد في فن الخط العربي، ومن دون مبالغة، فيها الكثير من التميز، وأول سؤال يتبادر إلى الذهن عند تفحصها والتمعن في محتواها، ماذا يمكن أن نسمي طارق عبيد وأين نصنفه، في هذه الخانة أم في تلك. فهو خطاط يبدع في تشكيل الحرف والكلمة والنصوص بوجه عام، كما أنه فنان تشكيلي يؤلف بين العناصر المختلفة من حروف وأشكال وألوان ويحول الجملة إلى كائن ينتمي إلى عالم قائم بذاته.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية