فلسطين والعالم: اعتناق حقيقة الوضوح الأخلاقي

في أعقاب المظاهرات المليونية العارمة التي ملأت شوارع كبريات العواصم احتجاجا على القرار الأمريكي بغزو العراق عام 2003 كتبت النيويورك تايمز أن ليس صحيحا ما كان يروج آنذاك على ألسنة كبار المحللين والإعلاميين من أن الولايات المتحدة قد تفردت بالزعامة وصارت القوة العظمى الوحيدة، فدخل العالم بذلك مرحلة الأحادية القطبية، بل الصحيح أن في العالم من الآن فصاعدا قوتين عظميين: الولايات المتحدة، والرأي العام العالمي!
والحق أن الرأي العام العالمي قد أثبت وجوده على مدى العقدين الماضيين بأنشطة وتعبيرات عديدة شملت، على سبيل المثال، مظاهرات الاحتجاج على الرأسمالية المتوحشة، واعتصامات احتلال وول ستريت، والمظاهرات المتكررة المطالبة بإنقاذ البيئة عبر معالجة مشكلة الاحتباس الحراري والتغير المناخي. إلا أنه لم يحدث منذ الغزو الأمريكي للعراق أن تجنّد الرأي العام العالمي لقضية بأقوى وأوسع من تجنده المشهود لصالح الشعب الفلسطيني الذي يستهدفه جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة بعدوان إباديّ لا يزال مستمرا بدون انقطاع منذ حوالي نصف عام. ولكن رغم كل ذلك فإن مسلك الدولة الأمريكية منذ المظاهرات الكبرى المناهضة لسياسات منظمة التجارة العالمية في مدينة سياتل أواخر عام 1999 إلى يوم الناس هذا لا يدل على أنها تقيم للرأي العالمي وزنا. فقد دأبت الإدارات الأمريكية، وحكومات الدول الديمقراطية عموما، على تجاهل الرأي العام تجاهلا أدى إلى إفراغ حرية التعبير الاجتماعي والاحتجاج الجماهيري من محتواها وتعقيمها من جدواها. صحيح أن الديمقراطيات الغربية تحترم حق الناس في حرية التعبير (ولو أن الحكومة البريطانية بذلت محاولة فاشلة لتحريم المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني)، وصحيح أن المظاهرات السياسية والطلابية والاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات العمالية قد تزايدت تزايدا ملحوظا في الأعوام الأخيرة. إلا أن المعادلة ثابتة: للشارع أن يقول ما يشاء، ولكن الحكومات تفعل ما تريد.

من مظاهر المظلمة التاريخية الكبرى التي ابتليت بها شعوب الجنوب أن كل خطوة خطتها هذه الشعوب على طريق المطالبة بحقوقها المشروعة قد استدعت، خصوصا في الحالة الفلسطينية، جهدا جهيدا

وإذا كان الرأي العام العالمي قد اضطلع بدور فعال في إنهاء نظام الأبارتهايد، فذلك لأن قضية شعب جنوب إفريقيا كانت تحظى لديه بوضوح أخلاقي لم تبدأ القضية الفلسطينية تحظى به عالميا، خصوصا في الغرب، إلا في الأعوام الأخيرة. فقد كانت الصورة مشوشة من قبل، ولم تنكشف حقيقة إسرائيل إلا حديثا. ولهذا فإن قضية التحرر الوطني الفلسطيني تبدو كأنها اكتشاف جديد للرأي العام العالمي وللشباب الطلابي الأمريكي والأوروبي. والسبب الأساس هو أن وضوحها الأخلاقي لم تبدأ حقيقتُه تتجلى للعالم إلا أخيرا. إذ من مظاهر المظلمة التاريخية الكبرى التي ابتليت بها شعوب الجنوب منذ بدء عهد التوسع الاستعماري في العصر الحديث أن كل خطوة خطتها هذه الشعوب على طريق المطالبة بحقوقها المشروعة قد استدعت، ولا تزال تستدعي، خصوصا في الحالة الفلسطينية، جهدا جهيدا ووقتا طويلا وتضحيات جساما. وكثيرا ما يمضي الجهد والوقت وجسيم التضحيات في محاولة إثبات البديهيات التي يصر الاستعمار على إنكارها. وتتبع القصة في معظم الحالات خطا يمكن إيجازه في الشكل التالي: في البداية يعتبر الاستعمار أن ليس للسكان المحليين أو الأصليين إلا واجب تقديم الشكر والعرفان لمجيء الرجل الأبيض إليهم متحملا عبء إخراجهم من ظلماتهم الشرقية أو الإفريقية إلى أنواره الأوروبية، حاملا إليهم رسالة المدنية المبشرة بالعلم والتقدم. ولغة العلم والتقدم هي لغة المستعمر حصرا، فلا خلاص خارجها ولا نجاة إلا بها. وبعد ذلك يُمضي الاستعمار عقودا في إنكار مجرد وجود هذه الشعوب، فهي ليست شعوبا في رأيه، ناهيك عن أن تكون أمما، بل هي مجرد خليط أقوام من الأهالي الذين لا تجمعهم أي آصرة وطنية أو قومية أو حتى ثقافية.
ولهذا فإن القضية الوطنية لا تبدأ تأخذ شكلها المعترف به إلا بعدما تفرض الأحداث وجود الشعب، والقيادة الشرعية التي تمثله، على العالم فرضا. فهل بلغت القضية الفلسطينية هذا الحد؟ ربما تكون بلغته بفضل تجلّي حقيقة وضوحها الأخلاقي. ولكن عند الرأي العالمي فقط. أما عند كبريات الدول فليس بعد، بدليل أن الخطاب السياسي الدولي لا يزال يتحدث عن إحلال السلام بين إسرائيل (فدائما ما تذكر إسرائيل أوّلا) وبين «الفلسطينيين» (هكذا، بإشارة ديموغرافية فضفاضة)، وليس الشعب الفلسطيني أو الأمة الفلسطينية أو فلسطين، وبدليل أن الخطاب الليبرالي ما يفتأ يغري إسرائيل بأن من صميم مصلحتها وأمنها أن تتكرّم بالموافقة على «فتح أفق سياسي يمنح الفلسطينيين أملا في إقامة دولتهم يوما ما».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية