فرنسا: جرائم المراهقين وفشل المدرسة

لدى الكثير من أبناء جيلنا حنين للطريقة التي كنا ندرس بها، على الرغم من أن الكل لا يتفق على أن الطرق، التي كانت مستخدمة حينها، وعلى رأسها الضرب، هي مثالية من الناحية التربوية، إلا أنهم يتفقون على أن المدارس الحديثة باتت تفتقد الانضباط والجدية واحترام المعلم، الذي كان يحظى حتى عقود قليلة خلت بمكانة اجتماعية وتقدير كبير من قبل تلاميذه ومن عامة المجتمع.
أسباب ذلك معروفة، وعلى رأسها ضعف العائد المادي، الذي يجعل معظم المعلمين يسعون لزيادة مداخيلهم عبر الانتقال إلى المدارس أو الدروس الخاصة. ساهم ذلك في ولادة ما يمكن تسميته بـ»بزنس التعليم». الظاهرة، التي من الإجحاف تحميل وزر ظهورها لشريحة المعلمين الضعيفة وحدها، التي يمتلك أصحابها، كما غيرهم، الحق في البحث عن حياة أفضل.
تكمن مشكلة «بزنس التعليم»، الذي انتشر في بلداننا كالسرطان، بحجة البحث عن الحداثة أو بسبب الاعتراض على مستوى المدرسة الحكومية التقليدية، في أنه يخرق العملية التربوية، فعلاقة «البزنس» هذه تجعل التلميذ ينظر لأستاذه نظرة فيها بعض الاستعلاء أحياناً، وكأنه يخبره أنه هو من يدفع له راتبه. وفق هذه العلاقة المشوهة يمكن أن تنجح شكوى صغيرة من مجموعة من التلاميذ الساخطين المدللين في إبعاد أي معلم، مهما كان مستواه ومهنيته، فخسارة معلم هي أقل بكثير، بالنسبة لأصحاب «بزنس التعليم» من خسارة تلاميذ/زبائن وأولياء أمورهم، لاسيما لو كان أولئك من أصحاب المال أو الوجاهة. يمكن الزعم أن هذا هو الحال في معظم الدول العربية، فقد انتقلنا خلال العقود القليلة السابقة من منح الأستاذ الحق الكامل في التوجيه والتقويم، ولو بشكل قاس، إلى مرحلة التحذير من المساس بالطالب أو التشدد معه، ما جعل معظم المعلمين مجبرين على التعامل ببرود مع المنهج، وبلا مبالاة مع ما يقابلهم من ظواهر سالبة، لأن أي محاولة للتقويم سوف تكون لها ردود أفعال قد يكون المعلم ضحية لها بالعقاب أو بفقدان الوظيفة. المقاربة مع ما يحدث في الغرب، أو في المثال الفرنسي، الذي نستعرضه في هذا المقال مهمة، فهناك المنتهى، الذي تود المناهج الحديثة والمدارس الخاصة أن توصلنا إليه. من هناك جاءت الأفكار، التي حاولت نزع القدسية عن الأستاذ، ثم مضت لتنزع منه الاحترام وفق فلسفة تعارض كل السلطات، ابتداء من سلطة الأهل ونهاية بالسلطة السياسية. هذه النظريات كانت جذابة في البداية. فكرة أن يتحكم الأطفال في مصائرهم، وأن لا يجرؤ، حتى آباؤهم، على توبيخهم، ناهيك عن معلميهم، أعجبت كثيراً من المتحمسين، لاسيما في الستينيات، التي شهدت ثورات شبابية مبنية على كراهية «النظام» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. أولئك المتحمسون لم يكونوا يعلمون أنه سوف يتم التمادي في نزع كل سلطة اجتماعية وعائلية، حتى يصل الأمر لتشجيع الأطفال على تقديم شكوى ضد ذويهم، بزعم أنهم أساؤوا معاملتهم، ما ينتج عنه في بعض الأحيان تفريق العائلة الواحدة وحرمان طفل، لم يكن يعلم عواقب ما قام به، من والديه. تبقى فرنسا في القلب من هذا كله، فهي بلد ثورة 1968 وهي بلد ميشيل فوكو، صاحب «المراقبة والمعاقبة»، والفيلسوف الذي أثرت أفكاره الناقدة للسلطة بشكل متطرف على كثير من أبناء جيله، الذين وجدوا في رؤاه الساخرة حتى من مراقبة المجانين والمرضى والمساجين مبحثا جديراً بالاهتمام.

بعد نصف قرن من هدوء الفورة الثورية، تجد فرنسا نفسها في مواجهة الحقيقة.. وإعادة التفكير ومراجعة تلك النظريات المؤسسة للتربية الحديثة

بعد نصف قرن من هدوء الفورة الثورية تجد فرنسا نفسها في مواجهة الحقيقة. في «عاصمة التنوير» تجبر أحداث مثل، العنف المدرسي المتزايد، الذي أدى لمقتل طفل في الخامسة عشرة من عمره طعناً بداية شهر أبريل الماضي، على إعادة التفكير ومراجعة تلك النظريات المؤسسة للتربية الحديثة. رئيس الوزراء الحالي غابرييل أتال، الذي كان قبلها وزيرا للتربية، عبّر عن صدمته إزاء ذلك الحادث داعياً إلى ضرورة إعادة المدرسة إلى «تحضرها» السابق. اقترح أتال، في سبيل الضبط، أن يعود التلاميذ للوقوف حين يدخل معلمهم، وأن تنتهي ثقافة قبول الاعتذار، أي الاعتذار بعمر مرتكب الجرائم الفظيعة. يدرك أتال أن الأزمة أكبر من أن تكون مجرد جريمة معزولة، كما لا يخفى عليه انتشار عنف المراهقين والقصر في ضواحي مدن كثيرة وفي أكثر من مكان، حيث تورد وسائل الإعلام بين الحين والآخر أنباء عن الاعتداءات على تلاميذ من قبل زملائهم، على جانب اعتداءات أخرى على معلمين وضباط شرطة من قبل مراهقين متفلتين. دعا أتال لأن يتحمل الأهل المسؤولية وأن يعلموا أن كون ابنهم مراهقاً، لا يجعله يفلت بشكل كامل من العقاب. الأهل، وفق تلويح أتال، سوف يكونون مجبرين على دفع ثمن أخطاء أبنائهم، وسوف يعاقبون مالياً عبر إجبارهم على تعويض كل خسارة مادية. يدخل في هذا، وفق خطاب أتال، الأهل المنفصلون عن بعضهم، فوفق كلماته يجب أن لا يتحول انفصال الأبوين لعذر كافٍ للتهرب من مسؤولية تربية وتوجيه الأبناء. حاول أتال التأكيد على عزم الدولة القضاء على ظاهرة الأطفال والمراهقين المتفلتين، واستخدم عبارات عاطفية من قبيل، إن في مثل هذه الظواهر هجوم على الجمهورية، وإنه يجب الرد بهجوم مضاد. ما نود قوله هو أن هذه العبارات العاطفية لا يمكنها أن تحجب الحقيقة وهي أن «الجمهورية»، للأسف، ليس في وسعها الكثير لتفعله، فما يحدث هو نتيجة عقود من تكريس فلسفة التمرد والفوضى، التي قلبت كل الموازين، فالأهل فقدوا السيطرة على أبنائهم، ولم يعودوا يستطيعون زجرهم أو إخافتهم بعد تلويح الدولة بعقوبات رادعة ضد الآباء العنيفين، وكذلك الحال بالنسبة للمعلمين، وحتى بالنسبة لرجال القانون، الذي يعتبر أن المراهق غير مكلف بشيء وغير مسؤول عما يفعله.
من أجل حل جذري فإنه يجب تغيير كل تلك المفاهيم، بما فيها مفهوم الرشد، الذي يفلت بموجبه المجرم من العقاب حتى سن الثامنة عشرة، كما يجب قبل مطالبة الآباء بتوجيه أبنائهم، مساعدتهم على استعادة سلطتهم العائلية ومراجعة الجانب الاجتماعي، الذي يجعل الأبوين مجبرين على العمل لساعات طويلة، ما يجعلهم بالضرورة بعيدين عن أبنائهم. الباحثون الاجتماعيون يعتبرون أن كل ما سبق هو رأس جبل الجليد، الذي يخفي تحته تورط كثير من المراهقين في شبكات إجرامية، خاصة في الأعمال المرتبطة ببيع المخدرات. يلفت أولئك الباحثون أيضاً لظاهرة جديدة تتعلق بممارسة الفتيات الدعارة في سن مبكرة، بتأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تقدر أعداد المنخرطات بالفعل منهن في هذا بما لا يقل عن خمس عشرة طفلة. التقارير، التي تتحدث عن هذا الموضوع صادمة، لكن من الممكن أن نتفهمها إذا ما وضعنا بعين الاعتبار ما يتم ترسيخه في الأذهان من أن غاية الوجود هي الحصول على المال، الذي يكفل بالضرورة السعادة. بحثاً عن هذا المال وفي غياب الرقابة الأبوية تدخل الفتاة وسائل التواصل الاجتماعي بحثا عن تحقيق الربح، فيسهل أن تقع فريسة لشبكات الإجرام أو الاتجار بالبشر.
النظر لكل هذه التفاصيل مفيد، فبينما نسرف في مدح النظريات التربوية والتعليمية الغربية، فإنه يجب علينا دائماً العمل على الحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا، وإلا فإننا سنواجه المأزق ذاته.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية