فرنسا الحكومية ودولة الاحتلال: «قشدة القشدة» هذه المرّة!

حجم الخط
0

معهد العلوم السياسية في باريس، أو الـ Sciene Po كما يُعرف اختصاراً، هو ثالث مؤسسة تعليمية عالية لتدريس العلوم السياسية على نطاق العالم، بعد جامعتَيْ هارفارد وأكسفورد؛ والتسمية الشعبية الأخرى، التي يستخدمها طلابه من باب التفاخر أو التفكّه، هو أنه «قشدة القشدة» بمعنى نخبة النخبة على وجه التحديد؛ وقد خرّج المعهد خمسة من رؤساء فرنسا خلال الجمهورية الخامسة: جورج بومبيدو، فرنسوا ميتيران، جاك شيراك، فرنسوا هولاند، وإمانويل ماكرون. ولم يكن عجيباً أن تشهد أروقة المعهد مفاعيل مباشرة لحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزة، بين أغلبية من الطلاب والأساتذة تناصر الضحية الفلسطينية، وأقلية من فئات مماثلة تساند دولة الاحتلال؛ وأن يفضي هذا الانقسام، تلقائياً أو عن سابق عمد وتصميم من جماعات صهيونية داخل اتحاد الطلاب اليهود، إلى اختزال السجالات في الفزاعات المعتادة بصدد العداء للسامية، واعتبار مناهضة الصهيونية أو سياسات الاحتلال بمثابة عداء معمم لليهود.
وقبل أيام قامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا الحكومية على مستوى رئيس الوزراء ووزيرة التعليم العالي، وكذلك على مستوى رئاسة الجمعية الوطنية (البرلمان) ومجلس الشيوخ، ورئيسة منطقة إيل دو فرانس التي تضمّ العاصمة الفرنسية؛ ثمّ دارت أحجار الرحى بصخب وعنف، لم تخلُ كالعادة من أكاذيب واختلاقات، على أقنية الأخبار الرئيسية عموماً واليمينية عالية التَصَهيُن خصوصاً. وتوجّب، استطراداً، أن يبادر الرئيس الفرنسي نفسه إلى الإدلاء بدلوه خلال الاجتماع الأسبوعي للحكومة، فنُقل عنه رسمياً أنه أدان التصريحات «المقيتة وغير المقبولة على الإطلاق» التي شهدها معهد العلوم السياسية، خلال منتدى خاصّ عقده الطلاب في إطار «يوم التعبئة الجامعية الأوروبية من أجل فلسطين».
وأمّا الواقعة موضوع هبّة الاستنكار هذه فهي، على وجه التعيين والحصر: رفض مشاركة طالبة واحدة، مقابل 100 تقريباً، من دخول المدرّج الذي شهد النشاط؛ ليس لأنها يهودية، فلا أحد هتف بهذا خاصة وأنّ عدداً من الطلاب اليهود كانوا في عداد المشاركين؛ بل لأنها صهيونية كما أشارت الهتافات، ويُعرف عنها سلوك عدواني وعنفي تجلى بوضوح خلال اشتباكات وقعت أمام بوابات المعهد، أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بين طلاب مؤيدين للقضية الفلسطينية من جهة، وأعضاء في اتحاد الطلاب اليهود في فرنسا من جهة مقابلة.
هل منع طالبة واحدة، صهيونية الفكر والسلوك، من دخول مدرّج تضامني مع القضية الفلسطينية، يستدعي هذا الحجم من ردود الأفعال؛ التي بدأت من هرولة رئيس الوزراء، صحبة وزيرة التعليم العالي، لزيارة المعهد والتشديد على «خطورة الوقائع» والتلويح بالقبضة الحكومية، ثمّ اللجوء إلى القضاء؟ أو أن تسارع إدارة المعهد إلى طلب تدخّل النائب العام للجمهورية والتحقيق في أحداث «ذات صفة معادية للسامية» على أساس المادة 40 من قانون العقوبات؟ أم تقتضي الحكاية من رئيسة البرلمان أن تظهر على شاشة القناة الأكثر يمينية وتصهيناً، الـCnews، كي تدين «مناخاً من العداء للسامية يترسخ في بلادنا» وتستنكر تحويل الجامعات والمعاهد الرفيعة إلى «مواقع تحزبية» تشهد «أفعال العنصرية والعداء للسامية»؟ أو، أخيراً وليس آخراً، أن يطلّ رئيس مجلس الشيوخ على شاشة القناة إياها، ليحذّر من تحويل معهد العلوم السياسية العريق إلى «متراس إسلامو ـ يساري» والتساؤل (نعم!) إذا كان في وسع طالب يهودي أن يدرس بهدوء في أية جامعة فرنسية.

تشهد أروقة المعهد مفاعيل مباشرة لحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزة، بين أغلبية من الطلاب والأساتذة تناصر الضحية الفلسطينية، وأقلية من فئات مماثلة تساند دولة الاحتلال

وقد يقول قائل، محقاً تماماً في الواقع: ما الذي ينتظره المرء من رئيس فرنسي هرع إلى دولة الاحتلال للمشاركة في «حجيج» أمريكي وبريطاني وألماني وإيطالي عانق رئيس الحكومة الإسرائيلي ومجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وأعرب عن تأييد مطلق وغير محدود لجرائم الحرب والإبادة البربرية التي سينخرط فيها الاحتلال سريعاً ضدّ الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزّة؟ وأيّ موقف آخر كانت ستتخذه رئيسة البرلمان الفرنسي، التي هرعت بدورها إلى مستوطنات غلاف غزّة، وأعلنت (من دون أيّ تفويض برلماني) مساندة «غير مشروطة» لدولة الاحتلال؟ أو رئيس مجلس الشيوخ، الذي كانت آخر مهازله أنه عارض إدخال الحقّ في الإجهاض ضمن الحقوق الدستورية، ثمّ «بلع» معارضته وسار في الركب صاغراً منافقاً مهللاً؟
صحيح، بالطبع، ولكن هذا الانحطاط في المستويات الحكومية لا يجري داخل جمهورية موز أو كيان كرتوني مثل «دولة جزيرة نيوي» بمساحة 260 كم في المحيط الهادي وبعدد سكان لا يتجاوز 1800 نسمة، أقامت علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال؛ بل في بلد الثورة الفرنسية، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789، ورافعة الشعار الشهير حول الحرية والمساواة والإخاء، ومهد فلاسفة تنويريين من طراز فولتير… هي، إلى هذا وذاك، البلد الذي سجّل واحدة من أبلغ شهادات الاستغاثة، التي اتخذت الصفة الحرفية لمبدأ الـ SOS، ليس لصالح ضحية يهودية تتعرض لاضطهاد معاد للسامية، وليس على سبيل الاتجار بما سيستحقّ صفة «صناعة الهولوكوست»؛ بل… لإنقاذ دولة الاحتلال من سياسات نتنياهو أوّلاً، ثمّ تحريرها استطراداً من مواقف «المجلس التمثيلي للهيئات اليهودية في فرنسا» الـ CRIF.
وأمّا التفصيل الأبرز في ذلك النداء/ الاستغاثة، الذي نشرته صحيفة «لوموند» في مناسبة ذكرى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، فقد كان حقيقة أنّ الموقّعين عليه كانوا خمسة من كبار يهود فرنسا: الصحافيان جاك ديروجي (أحد كبار أساتذة التحقيق الصحافي) وجان ليبرمان، والطبيب النفسي المعروف جاك حسون، والمؤرخ دانييل لندنبرغ، وبيير فيدال ناكيه الأكاديمي البارز المختص بالعلاقة بين التاريخ والذاكرة. هؤلاء، أنفسهم، سبق أن وقعوا مقالاً لا يقلّ سخونة على صفحات الصحيفة ذاتها، طالبوا فيه يهود فرنسا باتخاذ «مسافة نقدية كافية وصريحة ضد سياسات نتنياهو الانتحارية»: في عرقلة المفاوضات، والتهرّب من تنفيذ التعهدات والاتفاقات، واستئناف بناء المستوطنات…
والجهات هذه التي انتفضت لصالح منع طالبة، بين 100 طالبة وطالب، من دخول مدرّج اعتصام احتجاجي؛ سكتت، أو تكاد، عن سلوك فاضح مقيت لجأ إليه اليمين الفرنسي المتطرف، حزب مارين لوبين مثل حزب إريك زيمور، ضدّ مغنية الراب الفرنسية من أصل مالي آية ناكامورا، لأنها يمكن أن تؤدي أغنية من إديث بياف خلال افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس صيف هذا العام. تجاهلت رئيسة البرلمان أنّ ناكامورا هي المغنية الفرنسية الأكثر شهرة على نطاق العالم، وأغنيتها الشهيرة «جاجا» استمع إليها أكثر من 950 مليون شخص؛ وتناسى رئيس مجلس الشيوخ أنّ إلحاح اليمين المتطرف على منعها من أداء أغنية الافتتاح هو سلوك عنصري بغيض، جدير بإدانة أشدّ وضوحاً وصرامة من أيّ انتفاض ضدّ منع طالبة من اقتحام تجمّع.
وليس للجهات ذاتها أن تتجاهل الحقائق المريعة التي عرضها تقرير «اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان» من حيث «دخول العنصرية إلى طبقات المجتمع الفرنسي كافة» وأنّ «العرب المسلمين هم الفئة التي تثير القلق الأكبر أكثر من كل الأقليات الأخرى»؛ أو لجهة أنّ نزوعات المجتمع الفرنسي العنصرية المتأصلة تخلو على نحو ملموس من مشاعر العداء للسامية، في البلد ذاته الذي شهد محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، والتي أطلقت فكرة الدولة اليهودية عند صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل، كان آنذاك مراسلاً في باريس.
ولا عجب، في المحصلة، أن علاقات فرنسا الحكومية مع دولة الاحتلال تقزمت وانحطّت، حتى هبطت مؤخراً إلى «قشدة القشدة»؛ والقادم أدهى، غالباً.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية