غورباتشوف والحلف الأبيض لمواجهة الإسلام

تكاثرت البرامج الحوارية في اليوتيوب وبدأت تقدم معطيات ومعلومات كثيرة، إلى مستوى أن الرواية الأقرب إلى الواقع للكثير من الأحداث، ولا نقول الحقيقة، توجد في هذه البرامج. وضمن المعطيات المثيرة، ومنها ما كشف عنها جنرال فرنسي متقاعد ديديي توزين حول مقترح لموسكو نهاية الثمانينيات وقبل تفكك الاتحاد السوفييتي يطرح إنشاء «حلف أبيض» مع الحلف الأطلسي تحسبا لمواجهة المقبل من الجنوب.
وعمليا، ما زال الكثير من الإعلاميين، بل حتى من المؤرخين حبيسي وسائل الإعلام، والوثيقة الرسمية، وترديد ما ينشر في وسائل الإعلام الكلاسيكية والتقليدية، التي اعتاد الرأي العام على استهلاكها وأحيانا من دون آليات «التصفية» لمعرفة الحقيقة من التغليط. ويشكل الاطلاع على الوثائق التي تزال عنها السرية مثل، وثائق المخابرات والخارجية في بعض الدول مثل حالة الولايات المتحدة، مصدرا يساهم ليس فقط في تغيير الرؤية نحو مواضيع معينة، بل كذلك تصحيح الكثير من المغالطات. ويتذكر العالم كيف أن تسريب وثائق ويكليكس، ثم وثائق إدوارد سنودن ساهم في إلقاء الضوء على جوانب غامضة من العلاقات الدولية تتطلب إعادة كتابة تاريخ الكثير من الملفات.

تحولت البرامج الحوارية في اليوتيوب، لاسيما في الدول الغربية وحتى روسيا إلى مصدر مهم لمعرفة الكثير من الجوانب الخفية من صنع القرار في العلاقات الدولية أو حقيقة أحداث وقعت

والآن، تحولت البرامج الحوارية في اليوتيوب، لاسيما في الدول الغربية وحتى روسيا إلى مصدر مهم لمعرفة الكثير من الجوانب الخفية من صنع القرار في العلاقات الدولية أو حقيقة أحداث وقعت. وتكون هذه البرامج ذات أهمية عندما يكون الضيف من الذين ينتمون إلى «الاستبلشمنت» أي الدولة العميقة التي يكون لها بالغ الأثر في صنع القرار السياسي. نعم اليوتيوب مليء بالخزعبلات، ولكنه من خلال التمحيص والتحليل يمكن العثور على برامج رائعة ومفيدة. ارتباطا بهذا، شاهدت خلال الأيام الأخيرة برنامجا حواريا فرنسيا في اليوتيوب بعنوان «البناؤون»، اسم يحيل على الماسونية، حاور صاحبه جنرالا فرنسيا متقاعدا اسمه ديديي توزين. وتتجلى أهمية هذا الجنرال، إضافة الى مهام حربية تقلدها، فقد تولى إدارة مكتب «الدراسات الاستشرافية» للجيش الفرنسي، وهذا يعني اطلاعه على التقارير السرية والمخططات السرية للمستقبل، بل المشاركة في إعدادها. وعادة ما تكون هذه المكاتب مختبرات مثيرة الأدوار، فهي عكس البحث الأكاديمي الذي يدرس الظواهر، هي التي تصنع الكثير من هذه الظواهر وترسم الكثير من مسار القضايا. اعترف هذا الجنرال بخطأ الغرب في حق روسيا، من خلال توسيع حظيرة الحلف الأطلسي، بعدما كان التعهد يقتصر فقط على ضم ألمانيا دون باقي الجمهوريات التي كانت سابقا في حلف وارسو. وكشف كيف تبلورت أطروحة في واشنطن مفادها، ضرورة عرقلة أي نهضة روسية بشتى الطرق، وتبنت واشنطن رفقة لندن استراتيجية التحرش بروسيا. وألقى الضوء على تنبيه وجهه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للحلف الأطلسي خلال ديسمبر/كانون الأول 2021، يحذّر فيه بضرورة وقف الحلف الأطلسي لمناوراته وتحرشه بروسيا عبر أوكرانيا وإما سيعلن الحرب. هنا يلتقي هذا الجنرال المتقاعد مع عدد كبير من المسؤولين العسكريين الفرنسيين السابقين، بل حتى في دول أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان، الذين يحملون الحلف الأطلسي والثنائي لندن – واشنطن استفزاز روسيا والتسبب في حرب أوكرانيا على حساب أوروبا.
من جهة أخرى، أكد رواية رغبة روسيا الانضمام إلى الحلف الأطلسي، بداية التسعينيات إبان رئاسة بوريس يلتسن، هذا الأخير الذي كان معجبا بالغرب وأراد العضوية فيه، غير أن المفاجأة هو ما كشفه عن مضمون مثير للقاء جرى في ألمانيا الشرقية سنة 1988 (قبل تفكك الاتحاد السوفييتي) بين الرئيس السوفييتي غورباتشوف ووزير الخارجية الأمريكية في تلك الحقبة جيمس بيكر. في ذلك اللقاء طرح غورباتشوف إنشاء «حلف أبيض» بين الغرب والاتحاد السوفييتي وباقي جمهوريات أوروبا الشرقية. قدم غورباتشوف ورقة تتحدث عن مخاطر حقيقية ستحدث في القرن الواحد والعشرين، جراء النمو والتقدم في الجنوب، في افريقيا وآسيا والدول العربية والإسلامية، وركز على أدوار تركيا المستقبلية. واعترف الجنرال بأن الباحثين الروس لديهم رؤية بعيدة المدى في استشراف المستقبل، لكن بين الاستشراف والتطبيق واتخاذ الإجراءات هناك يبقى الخلل. واعترف بأن الدراسات التي أنجزها مكتب الدراسات الاستشرافية للجيش الفرنسي في التسعينيات من القرن الماضي توصل إلى نتائج قريبة من رؤية غورباتشوف، عندما اعتبر أن العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين الذي نمر منه الآن، يعتبر من أخطر المراحل في تاريخ البشرية، ونقطة تحول حقيقية في العلاقات الدولية بسبب نهضة الجنوب.
أطروحة غورباتشوف التي كشف عنها هذا الجنرال ليست تفكيرا مجردا يدخل في مجال السريالية، بل هو تيار موجود وسط الغرب وروسيا منذ بداية القرن العشرين، ومرتبط بسمو العرق الأبيض الذي يرى بنوع من الاحتقار باقي الشعوب غير البيضاء وغير المسيحية. وهذا التيار يخترق كل الدول المسيحية وروسيا، وينظر إلى ضرورة تحالف حقيقي بين العرق الأبيض في مواجهة باقي العالم. ويجد تجسيده في اليمين القومي المتطرف في هذه الدول. ويعتبر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من أبرز من نادوا بهذه الأطروحة التي لديها أنصار في الإدارة والجيش الأمريكيين. وكان من دعاتها الجنرال مايكل فلين المستشار الأسبق لترامب، والمدير الأسبق للاستخبارات العسكرية الذي جرى التحقيق معه بتهمة فرضية التعاون مع روسيا. لقد كان ترامب ينادي في حملته الانتخابية لسنة 2016 ثم خلال سنواته في البيت الأبيض بضرورة التنسيق والتعاون مع روسيا، وخلق حلف معها في مواجهة الصين. وكان ترامب ومن يقف وراءه يعتبرون الصين هي التي ستقود العالم في مواجهة الغرب، ولا يمكن إيقاف الصين من دون روسيا، ولهذا يعارض دعم أوكرانيا في مواجهة الغرب.
بين غورباتشوف وبوتين عقود قليلة من الزمن، انتقلت فيها روسيا من الرغبة في بناء «الحلف الأبيض» إلى التنسيق مع الدول الإسلامية في البريكس لضرب الغرب، لقد أصبح حلفا متعدد الألوان والثقافات والديانات.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية