غزّة وصحافة الديمقراطيات الغربية: الاتضاح والافتضاح

حجم الخط
0

في عداد المنافع (القليلة، المعنوية غالباً، الرمزية بمعنى التطبيق والإلزام، البلاغية في الحيثيات القانونية…) لمنظمة الأمم المتحدة؛ ثمة الأيام التي تخصصها لهذا الموضوع المحدد أو ذاك، في ميادين اجتماعية وإنسانية وحقوقية وثقافية وتربوية وصحية، والبعض القليل في شؤون السياسة والاقتصاد ومعمار النظام الدولي والعلاقات/ التوازنات بين الأمم.
اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف 3 أيار (مايو) من كلّ عام، هو واحد من تلك المنافع؛ حتى إذا كان قريب العهد من حيث الإطلاق، 1993، بالقياس إلى تاريخ المنظمة الدولية الرسمي الذي يعود إلى سنة 1945. وهو، كما تقول أدبيات المنظمة، مكرّس للاحتفال بالمبادئ الأساسية لحرية الصحافة، وتقييم حال تلك الحرية المفترَضة هنا وهناك في أرجاء العالم، والدفاع عن وسائل الإعلام في وجه الاعتداءات على استقلالها، وصولاً إلى إحياء ذكرى الصحافيات والصحافيين الذين فقدوا حياتهم أثناء قيامهم بواجباتهم. وكان لافتاً، حتى إذا عُدّ في حكم النادر، أن يشهد هذا العام تكريم جميع الصحافيين الفلسطينيين داخل قطاع غزّة، خاصة وأنّ العشرات من زملائهم سقطوا ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية، وثمة آخرون قيد تسمية «الجنود المجهولين».
وإذا صحّ الافتراض بأنّ لا مفاجأة، البتة، في أن يحتل النظام السوري المرتبة 179 من أصل 180 دولة على لائحة حرية الصحافة كما رصدتها منظمة «مراسلون بلا حدود»؛ فهل الأصحّ الانتباه إلى أنّ ألمانيا تأتي في المرتبة 10، وفرنسا 21، والمملكة المتحدة 23، والولايات المتحدة… 55؟ الموقع في ذيل اللائحة يفسره الاستبداد وغياب مفهوم الصحافة المستقلة من أصله، فكيف يمكن للديمقراطية ودولة القانون وشيوع حريات التعبير أن تبرر الترتيب الهابط للديمقراطيات الغربية المشار إليها؟
الإجابة بسيطة في الواقع، بل هي تزداد اتضاحاً وافتضاحاً يوماً بعد يوم، وتكاد في الطور الراهن تقتصر على مفردة واحدة وحيدة: غزّة، وما أدراك ما يتكاثر في تغطيتها من قيود شتى تهيمن على أعرق المؤسسات الإعلامية الغربية وتُفرض إرادياً وذاتياً من جانب هيئات التحرير قبل المساهمين والممولين والرساميل المساندة لحرب الإبادة الإسرائيلية. فأيّ جديد في تفضيح وسائل إعلام تابعة للنظام السوري، مثل وكالة أنباء «سانا» أو صحف «تشرين» و«البعث» و«الثورة»؛ مقابل انكشاف الفضائح المتعاقبة لدى مؤسسات عملاقة مثل «نيويورك تايمز» CNN  و BBCو»فيغارو» و«برلينر تزايتونغ»، حيث لا تُراقب الواقعةُ وحدها وأياً كان اندراجها في تصنيفات جرائم الحرب والفظائع النكراء (مثل قصف المشافي، مثلاً)، فحسب؛ بل يُصار، أيضاً، إلى خنق دلالات المفردة الواحدة، أو تشويه معانيها المتعارف عليها، أو حظر استخدامها نهائياً (كما حين تتفادى الصحافة الأمريكية مفردة «قصف» وتلجأ إلى «انفجار»، مثلاً فقط).
في الوسع الافتراض، تالياً، أنّ عهوداً صحافية انقضت (رغم أنها لم تنقرض تماماً كما للمرء أن يأمل) شهدت أمثلة لامعة على صحافي يتعب ويغامر ويجازف حتى بحياته، من أجل إماطة اللثام عن الحقائق المكتومة عن سابق قصد: صمويل هوبكنز آدامز في سلسلة تحقيقاته «الدجل الأمريكي الأكبر»، 1905، حول التلاعب بالأدوية؛ راي ستانارد بيكر، في كتابه «اقتفاء اللون»، 1908، حول التمييز العنصري؛ شارلوت بيركنز غيلمان، حول إساءة تشغيل الأطفال؛ أبتون سنكلير، في «الغاب» 1906، حول تعليب اللحوم؛ ثمّ سيمور هيرش الذي كشف مذبحة «ماي لي» في فييتنام، وفظائع سجن «أبو غريب» في العراق، بين قضايا أخرى كثيرة؛ كي يبقى المرء في الولايات المتحدة.
اليوم، مع استثناءات قليلة هنا وهناك لحسن الحظّ، تبدو مخيمات اعتصام الطلاب في الجامعات الغربية على وجه التحديد وكأنها تتولى بعض تلك المهامّ الاستقصائية؛ فلا تسجّل كرامة جديدة للقطاع الشابّ والطلابي فقط، بل تشرّف طرائق إعلان الحقيقة في وجه السلطة، حسب تعبير إدوارد سعيد الشهير.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية