«غزّةُ أرض القصيدة» مختارات شعرية بتحرير الشاعر محمد تيسير: كينونة الشعر بارتقائه إلى تجسيد الوجود

حجم الخط
0

المثنى الشيخ عطية

غصنُ زيتونٍ أخضر، شقيقةُ نعمان، جسدٌ يتجلَّى ناهضاً فوق الرماد، وتساؤلٌ داخل وخارج غلاف كتابٍ عن كينونة الشعر: في أيّ مكانٍ ينبت وينمو ويزهر ليكون شجرةً مثمرةً في حديقة إبداع الإنسانية؟
هل هي أرض الألم، أرض الفرح، الاحتلال، الاستقلال، الاستعباد، الحرية، الاستبداد أَم أرض الديمقراطية، أَم هي الكينونةُ المتنقِّلة المتحوِّلة بين جميع أشكال واحتمالات تعاسة وسعادة الإنسان، أم هي الجامعةُ للمتضادَّيْن المتصارعَيْن في واحدٍ، وتتجسَّد مجازاً في طفل يخرج من الأنقاض ويرفع علامة النصر فوق بيته المدمَّر ليكون مجازَ وبيتَ كينونة الشِّعر إذ يتجلّى أمامك لغةً صارخةً خرساء في ذات الوقت، بمعانٍ تُخفي ظواهرُها جواهرَها، لتمنحكَ عيوناً ترى ولا ترى. كما حدث ويحدث الآن في غزة التي يليق بها أن تكون أرضَ معجزاتِ الإنسان في البقاء، مقاومةِ الإنسان للفناء، أرضَ الأمثال عن قتل الإنسان بما لا يتصوره الخيال، وقيامة الفينيق المقتول من رماده، و”أرضُ القصيدة”؟ حيث نقرأ للشاعرة فاطمة محمود أحمد: “اِبحثْ عن فضاءٍ تتلمَّس فيه خطاً للأفق/ لوحةٍ لقمر يخفي حياءَه بشالٍ رقيق/  نسجَتْه له أيادٍ ملائكيةٌ حالمةٌ، تقول:/ اعطني قلباً دافئاً، وخذ يداً دافئة../ جرِّب أن تحطم هاتفك بحثاً عن كبرياء الحب/ أن تصرخ بنَفَسِ الثوار لتشعر أنك لا زلت إنساناً/ أن تُغَنِّي للأرض وتتركَ السماء للسماء/ تذكَّر دائماً أنك تعيش في أرض تضيق/ إن لم تكن للعشق والحرب والجنون/ إن لم تكن غزة!”.
كتاب “غزة أرض القصيدة”، أنطولوجيا شعرية، تتلمّس من خلال قصائد 17 شاعرة وشاعر، جوهر كينونة قطاع غزة، في حاضرنا، تحت حصارٍ همجيٍّ يعيد أمثولة ما لا نعرف تفاصيل حدوثه في التاريخ البعيد، بإلياذة حصار طروادة، وما نعرف في التاريخ القريب من إبادة المستوطنين الأوروبيين للسكان الأصليين في أمريكا، وتمّ توثيقه، وتصويره في أعمال فنية مثل رواية “الرحيل إلى أرض الجدة”، و”أفاتار”.
وفي هذه الأنطولوجيا، التي من المتوقع أن تظلم راهنيتُها تعبيراتِها الفنية، حيث يقع الراهن في فخ المباشرة عادةً، يقدّم الشاعر الفلسطيني محمد تيسير قصائد تتخطى المتوقَّع، بصراخها الهادئ أمام الفناء المجسّد بأسلحة الدولة الأقوى على الأرض، وبارتقاء تعبيراتها الفنية إلى ما فوق الراهن، وإلى ما يمنح المقاومة شمولية الثورة؛ بمعالجتها القيمَ التي تكبِّل المقاومة بالمعتقدات المتسللة من قيم المحتلّ نفسه، وتعطِّلها بالأنانيات الذكورية والأوهام.

ارتقاء الشعر فوق الراهن:

في ارتقائها، تسلك 41 قصيدة من الـ 42 المختارة، نهج قصيدة النثر، وتسير قصيدة الشاعر أحمد السوق الوحيدة بينها “غيمة أخيرة”، بنهج التفعيلة، التي يحافظ فيها على تماثل قافية المقاطع، مع سير قصيدته الأولى “كنت بانتظارك”، بنهج النثر مع نكهة الدهشة المميزة لقصائد جاك بريفير، وخصوصية ما يحدث للناس والأطفال من ردم تحت القصف، حيث: “الحرب قاسيةٌ/ لكنها تدفعني لأحبك أكثر”.
وفي قصائد النثر المختارة هذه، تختلف أساليب الشعراء في خصوصيات تجاربهم وأحوالهم ولغاتهم؛ وتأتلف في طبيعة قصيدة نثر ما بعد الحداثة المتداخلة بتدفق الكتابة الآلية السوريالية، وفلسفة العبث، والسخرية، ولا جدوى الدادائية الفاتحة للجدوى في معارضة الحرب، وتراكب الجملة الشعرية المجسِّد لوحدة الكائنات في عودتها إلى أصلها الكوني.
وكما لو اَن الإصرار على الوجود أمام العدم قد مدّ خيوط معجزات الكون إلى شعراء غزة؛ تُضاف إلى هذا الاختلاف الائتلافِ، الدهشةُ اللامعة، تحت ظلِّ راهنٍ صارخٍ بمباشرة القتل؛ من تمكّن قصائدَ على الارتقاء البهيّ، من السوريالية التي تحكم قصائد ما بعد الحداثة، وبها، إلى نهاية الواقع المفتوحة على عوالم الاحتمالات، والأكوان المتعددة المتداخلة بمتضادات ووحدة الكائنات، والمربوطة بخيطٍ غير مرئي بأصلها المُبَلْور في ضربات لاعب نردها المعلّم محمود درويش، في مسيرته المذهلة بارتقاء المقاومة إلى آفاقها الكونية.
في عودة السوريالية إلى دادائيتها، ومِضِيِّها بقوة اكتشافات العلم، من فوق واقعها إلى نهايته المفتوحة على افتراضات “ما كان وما سوف يكون”، تحضرُ قصيدة هبة صبري “حيواتٌ عديدة في رأسي”، بين الحياة السابقة واللاحقة، وصوفية اختراق الأكوان التي تتطلّب طبيباً نفسياً ينصح بالتوقف عن قراءة الكتب، وتحضر القصيدة التي تثير التساؤل فيما إذا كان هذا هو بيتنا أم طيننا الأول “لا تنسوا أن تعيدوني إلى البيت”، مكتملةً في التياث الشعر بمَدَدِ الحلاج، وفي اختلاط الحواس في قصيدتها الثالثة “نخب” بتجربتها المميزة.
كما تحضر ذئبية الشعر النفورة من المعتاد، المتداخلة بسلوك جنين الوجود، في قصيدة الشاعرة روان حسين “أنا لا أشبه الزهر”، حيث: “هذا اللاوجود والنقيض يحرِّراني،/ الانطباع الخاطئ يغذّي روحي،/ كما الأوجهُ الحزينة المجبولة/ على الدمع،/ المُرنَخة بأملاح بحرٍ ماتت على شواطئه اللغات والأشرعة”.
وحيث تتجلّى قوة الشعر في تمثل جوهر الوجود، من خلال إلغاء الزمن، وتصوير فشل عين الناظر كمومياً في تثبيت جنين الكون على حالته، إذ يتغيّر فوراً بمجرّد نظرها له، حيث: “لا شيء يؤطِّرُني،/ يحدّدُ ملامح الوقت المغتال على خاصرتي/ يحتكرُ الحقيقةَ المترسِّبة على ضفتيَّ/ وكأنَّ سائل الذعر “زئبقٌ” أسكبه/ إن تجرأ الممعن النظر من خلالي”.

أرض القصيدة:

وحيث لا يمكن الركون إلى التفضيل الظالم غالباً في تسليط الضوء على أي من الشعراء المختارين، وفي تقديمهم   للقارئ الشغوف الذي من حقه كذلك تقديم حقيقته في النظر إلى كينونة الشعر، يمكننا هنا الإشارة دون تفصيل إلى الـ 17 شاعرة وشاعر، وترك بلورة تجاربهم من وعيش قصائدهم التي تنبض بأسمائهم في بنية الكتاب، لذائقة القارئ:
1: أمل أبو قمر: في تعبيرها عن الوجود في الموت، خارج مشهد لقطة العنوان وداخلها بآن، في قصائدها: “نساء كاذبات يشربن القهوة، و”حليب مر” و”للموت، متى أصبح الموت رمزاً في هذه المدينة”، حيث: “كل شيءٍ فانٍ هنا إلا الموتى../ الموت هنا هو الأبدية…/ الموت هنا هو ذاك السِّكِّير الذي يكتب الشعر فوق الصخر/ بإزميل الذات من دون دراية/ لا يعلم أن هناك فجوةً في حجر الوجود فارغةً من المعنى”.
2: منى الصدر: مع ميزة شعر التساؤلات التي تعكس الفجيعة الحقيقية المختبئة تحت جلد الفجيعة الظاهرة، في قصائدها: “عبث التمنِّي، وازدحام، واحتمالٌ هش”، حيث تجري تساؤلات الوجود والعدم تحت نار الحرب التي احتلت جسد الصحو والنوم: “من يطفئ الحرب فيَّ/ ويقرضني بعضاً من النسيان”.
3: أدهم العقاد، في تساؤلاته حول الله والعالم الآخر فيما يحدث من حرب ومجازر، في قصيدتيه: “عدني يا أناي أو عُد إليّ، وفي العالم الآخر”، حيث: “الله يا خاطري المكسور يا دعائي المتحجّر يا جحيمي الرطب اطعمنا باروداً وردياً غير متفجّر، اسقنا من غيث أولئك القدامى الذين لم يصِلْ إليهم نبيٌّ أو صحابيٌّ يحمل تحذيراً بين ساعديه”.
4: مروة عطية: حول الحياة وطبقاتها الجليدية وصراعات تكسيرها، مع العائلة، السلطة، الاحتلال، الحرب والحصار، في قصائدها: “ورمٌ صغيرٌ، وطبقاتُ جليدٍ، وطفولةٌ ناعمة”، حيث: المآسي الصغيرة المتكوِّمة في جرار الوقت”، و”الكلام الذي علق على شفتيَّ ولم يسمعْه أحد”، وحيث:”هناك مدارس بدائية/ هنا، تربية مبدئية صارمة/ هناك تحولات سياسية/ هناك جامعات للتأديب والتوجيه والتحكم والانضباط/ هناك القصف والحرب والحصار”.
5: هاشم شلولة: في قصيدة القطعة، اللغة المترادفة المتوالدة، وفق لا منطق الكتابة الآلية، ومداخلة القصيدة بشخصيات أسطورية مثل شخصية النبي شعيب، وزرقاء اليمامة وإفلاطون ويهوشع ونوح وهامان.
6: محمد تيسير: وتجربته في اللغة المتراكبة المترادفة بكلماتها، مع التطعيم الخفيّ بالأسطورة، في قصائده: “درس: ربط غيمتين ببكاء، ورسم آخر لنهاية يوم عاديٍّ، وبين الخوف والأيادي الكبيرة”، حيث: “هكذا يبدو الخوف من جوف الملحمة/ للناظر من السماء.. عرقٌ، بكاءٌ، وتعبٌ/ ضحكٌ حتى انتهاء الضحك/ هي الخطوة الواثقة تدبُّ.. تدبُّ/ انظر ترى، انظر لا ترى!/ لو كانت أياديٌّ أقل اتساعاً/ لاستطاعت تبرير رغبتها/ الرغبة.. تفاحةٌ تقصيها المعرفة”.
7: فاطمة محمود أحمد: الناجية من موتين، التي “حين زارها الموت بكى على صدرها”، في قصائدها: “دفء القمر، وفتى أيار الغامض، وبكائية كلاسيكية عن أرض فلسطين”.
8: هبة صبري: في عمق تراكب شِعرها مع الخلق والوجود والكون، في قصائدها: “حيوات عديدة في رأسي، ولا تنسوا أن تعيدوني إلى البيت، ونخب”.
9: روان حسين: في تمردها الجريء، ووحشية قصائدها النفورة من المعتاد، المتداخلة بسلوك جَنين الوجود في قصيدتيها: “أنا لا أشبه الزهر، ولولا أقنعة الكلمات”.
10: محمد شقفة: في معالجاته للوحي، بقصائده: “توقيع، وكومة قش، ووحي ثمل”، حيث: “في عين وحينا يوجد بؤسنا، وفي بؤسنا قد لا يوتينا حتى الهواء”.
11: أحمد السوق: بقصيدة الدهشة، وقصيدة التفعيلة: “كنت بانتظارك، وغيمة أخيرة”.
12: يسرى السحار: في جملتها الشعرية المركَّبة من معان متداخلة المجازات، ومعالجات حبِّها الجريئة المتداخلة بجمل التراث، في قصائدها: “تسكُّع ظلّين، ولمساء يشبهك، وتساؤلات في ذاكرة محنطة”، حيث: “لنبدأ على بَرَكة الحب/ نحُوك ثياب فهرس الجلسة/ حيث طاولةٌ بمقاس عطرين/ وكرسيّان مطرّزان بالليلك/ ولصوت الموسيقى/ نقرع الحديث”.
13: إيلينا أحمد: في جرأة قلب مفاهيم المقدس وطرح التساؤلات عن الخلق في تداخلات مع النصوص المقدسة والصوفية، في قصائدها: “النجاة ليست حقيقة، وأغير الأسماء إكراماً للتواريخ، ولنرقص في خلوة الصدف”، حيث: “حين تصرخ الإناث شهوةً/ هل يخجل الربّ من وحدتهنَّ/ فيشيح بوجهه كي يمارس عادة التجلية”.
14: ضحى الكحلوت: في تجربة قصيدة القطعة مع التفكير في الحرب ومآسيها، بقصائدها “صور مع الحرب، وهروب من صور جماعية”: “من عقل الأولين، من سوط الأرباب الذي يأكل الجسد.”، وخمسة وستون”، حيث الشهداء ليسوا أرقاماً: “كانت لهم أسماء وعيون وشهادة ميلاد في بداية نموها، كان لهم ما لم يكن لنا”.
15: بسمان الديراوي: مع معالجة المخاوف في ساعات الحرب بتداخلٍ مع أسطورة يوسف، في قصيدتيه: “أبناء عاقون، وراية الغيظ”، حيث الحرية والوطن.
16: محمد عوض: في قصيدة القطعة “بيني وبين العالم حاجزٌ لا تعبره الكلمات”: “لكني ما زلت كما عهدتني../ تُفرحني قصيدة/ وتبكيني أغنية.”. وقصيدة السطر “قولي لهم هنا ينام الحب”: “أيتها الطرقات قولي للعابرين أن يمشوا حفاة”.
17: وسام الطويل: الذي يقطع برتقال الشعر مع الأرق، في قصيدة “أقطع البرتقال مع الأرق”، ويعيش حياة الشعر في قصيدة “على غفلة حدثت الحياة” حيث: “كان الإنسان يملك فماً كبيراً يملأ المحيط بكلماته/ فقرّر اختراع الصوت والمضيِّ طويلاً بصمته/ وعلى غفلةٍ حدثت الحياة/ كان الإنسان يملك الأنا والأمل/ معتقداً أنه وصل لأرض الإله”.

محمد تيسير (اختيار وتقديم): “غزة أرض القصيدة”
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2021
167 صفحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية