غزة والضباع واستثمار الإبادة

حجم الخط
0

يثير ما تفوه به جارد كوشنر صهر ومستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المرشح للعودة إلى البيت الأبيض، في حوار أجري معه في جامعة هارفارد برعاية «مبادرة الشرق الأوسط» في كليّة كينيدي، الغضب والتقزّز. ولكن من المهم والضروري أيضاً أن نقف عند ما قاله للتفكير والتذكير بالعلاقة الوثيقة بين الاستثمارات العقارية، والإحلال الاستيطاني الذي يسوّق تحت عنوان مشاريع «السلام». هذا السلام الذي ابتعدت معانيه السائدة في قاموس «الشرق الأوسط الجديد» عّما يفترض أن تعنيه المفردة حتى يكاد يعني النقيض. لكن ما الذي قاله المستثمر «الحكيم»، وعرّاب اتفاقيات السلام الإبراهيمي، حين سئل عن غزّة؟
«لسبب ما، هناك لاجئون بسبب هجوم شُنَّ من غزة». وتأسّف كوشنر أن الدول المجاورة لا تريد قبول اللاجئين من غزة. وحين سأله المحاور عن مخاوف العرب الحقيقة، وقال له «أنت تتحدث مع الكثير منهم» أنه إذا ما نزح أهل غزة القطاع فلن يسمح لهم نتنياهو بالعودة، يقول كوشنر: «ربما، لكن لست متأكداً من أنه قد بقي الكثير من غزة أصلاً».
ولم يجانب الصواب صاحبنا هنا، فقد دمّر القصف الإسرائيلي الوحشي 70% من مبانيها كلياً أو جزئياً، حسب الأونروا. وبجهل، أو تجاهل عنصري، وصفاقة وصف كوشنر غزّة بأنها مكان «مصطنع» «لم تكن غزة مكاناً تاريخياً.. كانت نتيجة حرب. وهناك قبائل في أماكن مختلفة. وأصبحت غزّة شيئاً.. ثم تعاقبت عليها حكومات وحرب أخرى والحروب تغير الحدود». ثم اقترح الحل لإنهاء «التهديد الذي تمثله غزة لإسرائيل ومصر»: «يمكن أن تكون عقارات غزة المقابلة للبحر ذات قيمة عالية إذا ركز الناس على البناء». وتكرّم مضيفاً «إنه وضع مؤسف بعض الشيء هناك.

كان نهب الأرض بسلاح الحرب وبالتطهير العرقي، أو بسلاح القانون الاستعماري (مصادرتها) وحيله ديدن إسرائيل منذ قيامها

لكن من وجهة نظر إسرائيل، الحل هو إخراج أكثر ما يمكن من المدنيين من رفح وإخلاء المكان. وبالدبلوماسية يمكن أخذهم إلى مصر، أعرف أن هذا رُفضَ، لكنه ممكن بالدبلوماسية الصحيحة، وبالإضافة إلى هذا يمكن تجريف شيء ما في النقب ونقل الناس هناك. قد لا يكون هذا هو الخيار الأكثر شعبية، لكنه خيار أفضل يسمح بالدخول وإنهاء المهمة»، وامتدح إسرائيل قائلاً إنها «بذلت قصارى جهودها، وفعلت أكثر مما كانت ستفعله الكثير من الدول الأخرى، لتحاول حماية المدنيين من الخطر». إفراغ الأرض من أهلها وسكانها الأصليين وتحويلهم إلى لاجئين وفسح المجال للاستثمار والاستعمار، لا يختلف ما يقوله كوشنر هنا كثيراً عمّا سمعناه وشاهدناه من مستوطنين صهاينة مسعورين في الأشهر الأخيرة، ينتظرون على أحر من الجمر «إنهاء العملية» في غزّة لكي «يعودوا». لقد أعدّوا الخرائط وأسماء المستعمرات، كما ذكرت مستوطنة، واضح من لهجتها أنها من نيويورك. كانت حركة «نحالا» الاستيطانية قد نظمت في كانون الثاني/يناير مؤتمراً في القدس المحتلّة يدعو لإعادة استعمار غزة حضره اثنا عشر وزيراً من الحكومة الإسرائيلية، بضمنهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، والمئات من المستوطنين ورقصوا وهللوا.
بعد انتهاء ولاية ترامب في 2021 وخروج ابنته وصهره، اللذيْن كانا من مستشاريه، من البيت الأبيض، أسّس جارد كوشنر شركة استثمارات اسمها Affinity Partners. دعم صندوق الاستثمارات العامة لإحدى الدول الشركة بمبلغ قدره 2 مليار دولار، على الرغم من أن لجنة الصندوق الاستشارية لم تنصح بالاستثمار فيها. كما دعمتها، حسب التقارير، دول خليجية أخرى بمئات ملايين الدولارات. استثمرت شركة كوشنر مؤخراً 150 مليون دولار للحصول على 10 في المئة من الأسهم في قسم السيارات في شركة مجموعة شلومو الإسرائيلية الضخمة. وحسب تصريحات رئيس الشركة فإن «صندوق كوشنر سيرعى مشاريع عمل مشتركة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا». كما أنفقت شركة كوشنر 250 مليون دولار مؤخراً للحصول على 25 في المئة من أسهم شركة إسرائيلية ثانية هي وكالة فينكس للتأمين. وسبق لعائلة كوشنر أن تبرّعت بأموال لمستوطنة بيت إيل، المبنية على أراض فلسطينية خارج رام الله، كان الجيش الإسرائيلي قد صادرها في السبعينيات.
كان نهب الأرض بسلاح الحرب وبالتطهير العرقي، أو بسلاح القانون الاستعماري (مصادرتها) وحيله ديدن إسرائيل منذ قيامها، فبعد تدمير وتهجير 531 قرية واحتلال المدن الفلسطينية في 1948، صادرت إسرائيل بين عامي 1948 و1972 مليون دونم من الأراضي الفلسطينية في المثلث والجليل والنقب. وفي 1975 أعلنت حكومة رابين عن «مشروع تطوير الجليل» الذي كان يعني تهويد المنطقة. وفي 1976 صادقت الحكومة على مصادرة 20 ألف دونم من أملاك الفلاحين الفلسطينيين في سخنين وعرابة ودير حنا وعرب السواعد لبناء مستوطنات. دعت إثر ذلك «اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي» التي كانت قد تشكّلت بعد تعبئة الصفوف والتنظيم والتنسيق لمواجهة سياسات الدولة، دعت إلى اجتماع تقرر فيه دعوة جماهير الداخل الفلسطيني لمقاومة المصادرة والاستعداد لإضراب واحتجاج شامل ليوم واحد في الثلاثين من آذار/مارس الذي سيصبح يوم الأرض. على الرغم من التهديدات لكن الجماهير خرجت في مظاهرات شعبية عارمة عمّت الداخل الفلسطيني وبدأت المواجهات عشية يوم الأرض. وقوبل المتظاهرون والمضربون بالعنف والاعتقالات والمداهمات وقتل، الجيش الإسرائيلي ستة فلسطينيين. من بينهم خديجة التي ذكرها محمود درويش في قصيدته عن يوم الأرض. كان يوم الأرض تحولاً مهمّاً في نضال الفلسطينيين في الداخل. كما أنه اكتسب رمزية ومركزية تجمع الفلسطينيين في كل مكان. حيث تضامن الفلسطينيون في الضفة وغزة ومخيمات اللجوء في لبنان في تلك السنة مع فلسطينيي الداخل.
اليوم هو يوم الأرض وستنطلق في مدن كثيرة على هذه البسيطة مظاهرات عارمة يحيي ذكراه فيها فلسطينيو الشتات وآخرون وأخريات يتضامنون مع الفلسطينيين ويؤكدون حقهم في أرضهم كلها. في غزة وكل فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر. حق لا يسقط بالتقادم. بالعودة إلى كوشنر وشركائه وشركته؛ والمفارقة أن اسمها، (Affinity) ومن معاني المفردة: تآلف، تماثل، صلة، وفاق، قُربى. «وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة/على المرء من وقع الحسام المهند». والصلة التي تربط كوشنر برفاقه وشركائه ليست الصهيونية والتصَهْيُن فحسب، بل التآلف والتوافق في اعتناق الرأسمالية المتوحشة، والبحث المحموم عن الأرباح والاستثمار في الموت وتشييد العمارات والمشاريع السياحية فوق المقابر الجماعية.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية